بعد هدوء عاصفة الأخبار العاجلة والمواجهة العسكرية المباشرة بين طرفي الأزمة الأذربيجانية الأرمينية وانقشاع غبار المعركة عن اتفاق ما زالت تفاصيل شروطه مطرح الأخذ والرد بين الأطراف المختلفة وبعد سيل التحليلات السياسية والعسكرية للمعركة وأطرافها وداعميهم كروسيا وتركيا وإيران وفرنسا و"إسرائيل" وغيرهم والعلاقة بينهم وبين طرفي النزاع كان دور كل من تركيا ودولة الاحتلال في المعركة من القضايا المثيرة للجدل.
العلاقات المتقلبة وما يسمى بقانون الإبادة:
فقد شهدت العلاقات التركية مع الاحتلال تقلبات كثيرة بين الصعود والهبوط منذ تأسيس دولة الاحتلال وحتى اليوم وبناء على هذه العلاقة كانت تتغير طبيعة العلاقة بين الاحتلال وأرمينيا على صعيد الدولة واللوبي الأرميني في العالم فعلى سبيل المثال كان من المتعارف عليه أن اللوبي الصهيوني في العالم وخاصة في أمريكا وأوروبا كان يساند دائما اللوبي التركي في مواجهة اللوبي الأرمني لمنع صدور أي قرار يقر بادعاء الأرمن حول مذابح تعرضوا لها على يد الدولة العثمانية ومساعيهم لتحميل الجمهورية التركية مسؤوليتها وقد أدى هذا التعاون في العديد من المرات لإفشال مشاريع القرارات التي كان يقدمها اللوبي الأرميني الذي يعتبر ثاني أقوى لوبي بعد اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية واستمر هذا الحال حتى اعتداء الاحتلال على سفينة مرمرة وردة الفعل التركية عليها على الصعيد السياسي والدبلوماسي فمنذ ذلك الحين دعم اللوبي الصهيوني بحذر اللوبي الأرميني وتم تمرير قرارات بالاعتراف باليوم العالمي لمذابح الأرمن بنسخ متفاوتة الحدة في العديد من دول العالم ونجح في تمرير قرار ضعيف اللهجة ومن النوع الذي لا يملك قوة قانون ملزمة من مجلس الشيوخ الأمريكي في العام الماضي كنوع من الرد على المواقف التركية المعادية للاحتلال وممارساته كنوع من الضغط لكن دون كسر على الحكومة التركية وفي داخل دولة الاحتلال نفسها لم يكن اللوبي الأرميني هو المحرك الأكبر للموضوع بقدر ما كانت المعاداة لتركيا التي ظهرت في السنوات الأخيرة. فقد تحركت أحزاب صهيونية متطرفة في العداء لتركيا وتقدمت عدة مرات بطلب إقرار قانون الإبادة الأرمينية في الكنيست ولكن الأحزاب الحاكمة منعت تمرير القرار في اللجان القانونية التابعة للكنيست حتى قبل عرضه لسببين رئيسين وهما:
الأول رغبة حكومة الاحتلال في عدم قطع شعرة معاوية مع تركيا أو إعطاء أردوغان الحجة أمام المعارضة في قطع العلاقة والثاني قناعة القادة السياسيين في دولة الاحتلال أن هذا الأمر قد ينقلب لصالح اردوغان في حال استغله في خطابه السياسي كما صرحت الحكومة الصهيونية قبيل الانتخابات الرئاسية في تركيا منتصف 2019.
العلاقات الإسرائيلية الأذربيجانية الأرمينية:
بدأت العلاقات بين الاحتلال وأذربيجان وأرمينيا منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي واستقلال البلدين عن الاتحاد السوفييتي لكن هذه العلاقة كانت ضعيفة ومتقلبة مع أرمينيا لكن أرمينيا على عكسها مع أذربيجان حيث كانت أقوى وأكثر عمقًا خاصة وأن العراب الأساسي لهذه العلاقة كانت تركيا وكون دولة الاحتلال كانت غير معنية بإغضاب حليفها الأهم في الشرق الأوسط -في حينها- تركيا بتطوير علاقاتها مع عدو تركيا اللدود أرمينيا من ناحية ورغبتها في التقارب أكثر مع أذربيجان الدولة ذات الثقل الكبير في قطاع الطاقة والغاز في المنطقة وبالإضافة لهذه وتلك فإن اللوبي اليهودي يعتبر أرمينيا من البلدان التي تعرض فيها اليهود على يد الحكومات الأرمينية – في ظل الاتحاد السوفييتي- إلى الاضطهاد بشكل كبير على عكس يهود أذربيجان.
واستمرت العلاقة مع أذربيجان بالتطور بالتوازي مع تطور العلاقات التركية الإسرائيلية التي كانت في أفضل مراحلها في التسعينيات من القرن الماضي وعقدت صفقات الغاز والمعدات العسكرية بين البلدين حتى واستمرت في التصاعد ولم تتراجع رغم تراجعها مع تركيا منذ أكثر من عشر سنوات وتحول العالقة التركية الإسرائيلية من الحلف إلى التنافس في التأثير على المنطقة ودولها.
أقليم كارابخ وعقدة المنشار:
شكل موضوع ناغورني كراباخ (جبال كاراباخ) محورًا مهمًّا في تشكيل علاقات أذربيجان مع الدول الأخرى وقد كانت تركيا أول دولة تعترف باستقلال أذربيجان عن الاتحاد السوفييتي عام 1991 من أول وأكثر الدول دعمًا لأذربيجان في معركتها مع أرمينيا عام 1986 فرغم ضعفها العسكري والاقتصادي في حينها إلا أنها أعلنت وقوفها مع أذربيجان وأغلقت الحدود مع أرمينيا وقطعت علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية معها ومنذ ذلك الحين فقد تطورت العلاقات الأذرية التركية في المجالات الاقتصادية والعسكرية واستفادت أذربيجان من شبكة العلاقات الدولية التي كانت تملكها تركيا مع أمريكا وحلف الناتو لتطوير شبكة علاقاتها الدولية لأن تركيا تؤمن أن خط علاقتها مع أذربيجان يتجاوز بعد التاريخ والثقافة المشتركة بكثير فأذربيجان هي العمق الاستراتيجي لتركيا في آسيا الوسطى وأحد أهم خطوط توصيل الغاز لتركيا وتمريره عبرها لأوروبا.
ومن ضمن المكتسبات الأذربيجانية على صعيد العلاقات الدولية كان تسهيل ودعم تركيا في التسعينيات للعلاقات الأذربيجانية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي نظرًا لأن تركيا كانت الحليف الأهم للاحتلال في المنطقة منذ تأسيس دولة الاحتلال وحتى عام 2009 وشكل موضوع إقليم ناغورني كاراباخ والأزمة المتفجرة باستمرار بين أرمينيا وأذربيجان محور مهم في التأثير على العلاقات الإسرائيلية مع طرفي النزاع وبسبب التطور الإيجابي المستمر والمصالح المتبادلة بين الاحتلال ودولة أذربيجان فقد كانت كفة العلاقات مع الكيان الصهيوني تميل دائمًا لأذربيجان وقد استفادت أذربيجان من هذه العلاقة في تطوير أدائها العسكري عبر شراء المعدات العسكرية الإسرائيلية وخاصة القاذفات المضادة للدروع والطائرات من دون طيار، لكن تطورت العلاقة مع تكيا خاصة في السنوات العشر الأخيرة بدعم أذربيجان عسكريا على صعيد المعدات والتدريب والإشراف حتى وصلت العلاقة العسكرية أحد أهم بنود اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين التي وقعت عام 2014، هذه الاتفاقية التي تعتبر بداية تحويل المقولة المشهورة للرئيس الأذربيجاني الأسبق حيد ألييف (تركيا وأذربيجان دولتين لشعب واحد).
ومع كل تطور في الصناعات العسكرية التركية كانت أذربيجان المستفيد الأول من هذه المنتجات بعد الجيش التركي، وكلما زادت المعدات التركية الصنع لدى الأذريين كانت تقل حاجتهم للمعدات الإسرائيلية أو لنقل تتحول تركيا لبديل للمعدات الإسرائيلية، الأمر الذي يناسب تمامًا اعتبار تركيا للاحتلال منافسًا غير مرغوب فيه في مناطق وسط آسيا، ومع ذلك لم تنجح تركيا في اقناع أذربيجان بتخفيض مستوى العلاقة مع دولة الاحتلال.
وقد جاءت المعركة الأخيرية في إقليم كاراباخ لتظهر هذا التنافس بشكل أوضح بل كان محور الحديث يدور في المحافل السياسية والعسكرية في كل من دولة الاحتلال وتركيا، حيث اعتبر الاحتلال أن هذا النمو في العلاقة سيؤثر سلبًا على علاقتها مع أذربيجان والمنطقة خاصة بعد النجاح الأذربيجاني في كسب المعركة العسكرية في الميدان بدعم واسناد بالمعدات العسكرية التركية، خاصة المدافع الموجهة والطائرات التركية بدون طيار (بايراقدار 1 و2) وكذلك بالفرق البشرية التركية التي ثبت أنها كانت تشارك في الإشراف على المعارك. وليس من المنطق القول أن تركيا فعلا لا تسعى لذلك بل ورد من عدة مصادر أن تركيا طالبت باكو بوقف استيراد المعدات العسكرية من الكيان على أن تغطي هي تلك الاحتياجات وأن باكو تناقش تطبيق الفكرة ولو جزئيا خاصة وأن المصالح الأذربيجانية التركية بقدر ما هي هامة لتركيا فهي مهمة وحياتية بالنسبة لأذربيجان خاصة أن تركيا هي الحليف الاقتصادي الأهم لأذربيجان في المنطقة.
وبناء عليه فإنه كلما زادت قوة العلاقات التركية الأذربيجانية فإن العلاقات الأذربيجانية مع الكيان الصهيوني ستتراجع خاصة وأن التحالف بين اللوبيين الصهيوني والأرميني في العالم في تقدم واضح في السنوات العشر الأخيرة، وأن الاحتلال لم يعد يرى في تركيا الحليف الاستراتيجي أو حتى الحليف في المنطقة بل الدولة المنافسة له وأن كل نمو في القوة لهذا الخصم في وسط آسيا هي خسارة للاحتلال وهذا يؤكد تصريح السفير الأرميني لدى دولة الاحتلال بأن إسرائيل ستوقف دعم أذربيجان بالسلاح.