بعيدًا عن الجدل الداخلي الذي لا أحب الخوض فيه، لم يكتبها هاوٍ ولم تكتب لمجرد المناورة، بل كإطار عمل سياسي دائم واضح المعالم. من صاغ الوثيقة محترف -حماس الخارج- و ربط المصلحة الشعبية بأعلى سقف وطني ممكن، دون استفزاز المجتمع الدولي. الوثيقة لها ما بعدها، وهي ليست مجرد اجتهاد شخصي يسعى لتحريك المياه الراكدة، بل أبعد من ذلك، حيث تنتظرها دوائر دولية وإقليمية -كانت داعمة للوثيقة وقريبة- لكي تبني عليها علاقات سياسية أوضح وفوق الطاولة، وليمكنها دعم حماس دون إحراج. وقد صنفت حماس نفسها بوضوح أنها بعيدة عن التطرف والتشدد. الوثيقة ليست سهما في الفضاء العشوائي، بل كتبت من اجل تطور سياسي كبير قادم، والشهور القادمة ستشهد بذلك، وقد هاجم نتنياهو الوثيقة عدة مرات لإدراكه خطورة هذه الوثيقة التي ستنأى بحماس عن تهم الإرهاب، والتي ستدخل حماس بموجبها مناطق كانت حكرا على منظمة التحرير فقط.
الوثيقة تضمنت فك ارتباط تنظيمي وسياسي مع تنظيم الإخوان المسلمين، وهذا كان مطلبا مصريا بامتياز، تم تلبيته لكي تدخل حماس مصر من بابها العريض ومن ثمة ستعزز مكانتها لدى دول الخليج على المستوى العربي. وقد نالت حظوة إعلامية عربية كبيرة واهتمام دولي كبير.
كما جاءت هذه الوثيقة لترفع الإحراج عن دول مثل تركيا وقطر لكي تستأنف مساعدتها ودعمها بشكل لا يتعارض مع المجتمع الدولي وشروطه، كما أرى أن الوثيقة لم تكن لتظهر لولا وعد من بعض دول أوروبية (وازنة) وعدت أن تسوق هذه الوثيقة وبأن تكون هذه الوثيقة بداية علاقات جديدة بين حماس وأوروبا، وأقل تقدير هو أن تكون هذه الوثيقة خطوة هامة وكبيرة وفارقة على صعيد الوصول للشرعية الدولية ، أما إذا تم زيادة جرعة التفاؤل فان الوثيقة قد تكون هي الشرط الذي طلبته دول أوروبية إضافة للدول الداعمة لغزة، من اجل البدء بشكل مباشر في إجراء محادثات ومفاوضات مع العالم الخارجي، وأيضا من المتوقع أن تبدأ حماس مفاوضات "غير مباشرة" مع إسرائيل في ظل "مفهوم الهدنة والموافقة على حدود دولة على الرابع من حزيران 67"، وذلك من أجل إيجاد حل لمشكلات غزة المتفاقمة والخروج من الحصار الذي تجاوز العشر سنوات. لان هناك قناعة تولدت لدى حماس بان السلطة الفلسطينية لن تعطي شيئا وقد لفظت غزة من أجندتها وتركت مليوني فلسطيني دون مسئولية حقيقية. أما هل تكون هذه الوثيقة رافعة لحماس وجعلها بديلا عن منظمة التحرير؟؟ فإذا تم الربط بين عدة أنشطة منها مؤتمر اسطنبول بالوثيقة فإننا نرى أن الإجابة كتحصيل حاصل؛ نعم. ستكون حماس البديل، وسيصار للتعامل معها في كل شيء، لأن حماس ترى أن حركة فتح والسلطة الفلسطينية تضع شروطا أكبر وأصعب على حماس من اجل إنهاء الانقسام وتولي أمور غزة. ويظل تحذير حماس من غواية بعض الحلفاء الإقليميين واجبا وطنيا، حتى لا تقع في نفس أخطاء حركة فتح.
وختاما، فإن الوثيقة تعتبر تطورا فكريا وسياسيا واضحا في مسار الحركة، وهي جاءت نتيجة التطورات الإقليمية والدولية والداخلية ومن خلال تجربتها في الحكم، وهذا لا يمنع أنه ضمن البنود ما يتوافق مع المصلحة الخاصة للحركة وأيضا المصلحة الشعبية. والرأي لدينا، أن حماس لن تترك الحكم والسياسة لأنها حسب قناعتها ترى بأنها مسئولية، وأنها تستطيع أن تجمع بين مفهوم المقاومة مع مفهوم الحكم. لذا، من الحكمة أن تكون هناك مصالحة حقيقية وآنية بين فتح وحماس وان يقررا معا شئون الحرب والسلم، وكيفية التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي كي لا ينفرد الاحتلال بطرف دون طرف، وأعتقد أن الخاسر بعد الوثيقة هي السلطة وحركة فتح وخاصة أن السلطة لم يتبقَ في جعبتها شيء يقويها ويعزز من مسار تفاوضها مع الاحتلال والمجتمع الدولي، بعدما أسقطت مفهوم الكفاح المسلح. وأضعفت نفسها بنفسها، والاحتلال والمجتمع الدولي لا يحترم إلا الأقوياء.