لدى فرنسا الرسمية تفسير سهل لموجة الغضب العارم منها حول العالم الإسلامي، فكل ما يجري "مدفوع من أقلية متطرفة"، هكذا ببساطة. ورد هذا في تصريح لوزارة الخارجية الفرنسية يوم 25 تشرين الأول/ أكتوبر بعد أيام قليلة من انطلاق موجة مقاطعة غير مسبوقة للبضائع الفرنسية. سكب هذا التصريح مزيداً من الزيت على نار الأزمة بإلصاق وصمة التطرف المعتادة بسلوك الامتناع عن الشراء، رغم أنه من حق البشر التعبير عن مواقفهم بهذه الطريقة.
عموما، فإنّ تفسير الأزمة التي تواجهها فرنسا حالياً مع الشعوب المسلمة بأنها تعود إلى موقف "متطرف" عند المسلمين، أو أنها مجرّد تصعيد من الرئيس التركي أردوغان ضد نظيره الفرنسي ماكرون كما يأتي في وسائل الإعلام الفرنسية؛ يعبِّر عن اختزال جسيم لما يجري.
يقول المستهلكون المسلمون حول العالم إنهم يُقاطعون المنتجات الفرنسية ردّاً على إساءات متكررة بحق الدين الإسلامي يظهر الرئيس ماكرون كمن يدافع عنها. لكنّ القيادة الفرنسية لا ترغب بالاعتراف بأنّ مواقفها استهانت بمسلمي العالم، وأشعرتهم بإيقاع إذلال معنوي عليهم من خلال سلسلة من مواقفها الأخيرة.
خرج ماكرون ليتحدث في خطاب ألقاه في 2 تشرين الأول/ أكتوبر عن أنّ "الإسلام في أزمة في كل مكان حول العالم اليوم"، مُتجاوزاً الدور المُنتظر من رئيس دولة علمانية. ودافع الرئيس الفرنسي قبل ذلك وبعده عن نشر رسوم ازدراء بحق النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في بلاده، وفعل ذلك حتى عندما ظهر في بيروت في الأول من أيلول/ سبتمبر بعد انفجار المرفأ. واصَل ماكرون تقليداً اعتاده أسلافه في الإليزيه بإظهار قلّة الاحترام وهم يطلقون مصطلحات تربط كلمة الإسلام دون غيره من الأديان بالإرهاب والتطرّف، وجاء ماكرون فوق هذا بمصطلح جديد هو "الانفصالية الإسلامية"، في تصعيد لفظي جديد.
ليست القضية رسوماً كاريكاتيرية مستفزّة وحسب. يلحظ المسلمون ومعهم أصوات من داخل فرنسا وحول العالم كيف يتم تغليف بعض حملات الكراهية والازدراء التي تستهدف الإسلام تحديداً بذريعة حرية التعبير، ومن شأن هذا أن يوحي بمنح هذه الحملات حصانة أدبية وغطاء أخلاقياً وتشجيعاً عامّاً. ويظهر التناقض باختفاء أي ذكر لحرية التعبير عندما يرفض المسلمون حملات الازدراء التي تلاحقهم ويعبِّرون عن استنكار الإساءة إلى دينهم، ويجري توجيه وصف التطرف بصفة تعميمية إلى المُعترِضين. يكشف هذا الاستدعاء الانتقائي لمبدأ حرية التعبير عن التحيِّزات والمواقف المسبقة.
صار من الشائع في أوروبا - بقصد أو بدون قصد - تشجيع خطابات الكراهية التي تزدري المسلمين وتسخر من دينهم بإبراز حرية التعبير، وتصنيف بعض حملات التشويه وبثّ الأحقاد ضمن "قيم أوروبا" و"العالم المتحضر"، حتى دون نقد الإساءات الشائنة والتبرُّؤ منها. وإن اشتهرت صحيفة "شارلي إيبدو" الساخرة بالتطاول المتكرر على النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، فإنّ هذه الصحيفة لم تقف عند هذا الحدّ، فازدراء المسلمين دفعها إلى رسم فتاة مسلمة على غلافها في هيئة تشبه القرد. وجاء هذا التشويه لمجرّد أنّ الفتاة التي كانت في التاسعة عشرة من عمرها آنذاك واسمها مريم بوجيتو انتُخِبت لرئاسة اتحاد الطلبة في جامعة السوربون UNEF، وظهرت في برنامج على قناة M6 الفرنسية يوم 19 أيار/ مايو 2018.
من الواضح أنّ القيادة الفرنسية فوجئت بغضب عارم يثور ضدها سريعاً عبر العالم الإسلامي، بعد أن أخطأت في تقدير الموقف واستهانت بمشاعر المسلمين في كل مكان. كان يمكن لباريس تجنُّب الأزمة بشيء من الحكمة دون الانتقاص من مبدأ حرية التعبير، وكان باستطاعة ماكرون المأزوم سياسياً أن يتعلّم من هيلاري كلينتون مثلاً عندما وصفت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك (13 أيلول/ سبتمبر 2012) فيلماً صدر في بلادها مخصصاً لازدراء النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بأنه "عمل مقزز".
يومها كان القادة الغربيون ينتقون كلماتهم بعناية إضافية؛ لأنّ "الربيع العربي" أظهر أنّ الشعوب العربية والمسلمة يَقِظة ولها صوت مسموع. لكنّ ماكرون ينتمي إلى مرحلة لاحقة صعد فيها الحكم الاستبدادي مجدداً في البلاد العربية، ورحّبت فيها فرنسا ببعض الطغاة على البساط الأحمر بعد أن سحقوا الديمقراطية في بلادهم.
تلحظ الجماهير العربية والمسلمة أنّ تبرير ازدراء الإسلام بشعار حرية التعبير يُصاحبه التعاون الفرنسي الواسع مع أنظمة حكم عربية تقمع حرية التعبير وحقوق مواطنيها، لكنّ الساسة في باريس لا يُلقون على ما يبدو بالاً لمشاعر شعوب مقهورة ولا حتى لمواطنيهم المسلمين الذين يمثِّلون أكبر وجود مسلم في أوروبا. فالتنافس السياسي الداخلي يُغري بخوْض مزايدات على حساب المسلمين خاصة في المواسم الانتخابية. يخوض ماكرون منافسة شاقّة هذه المرّة مع أقصى اليمين، وقد يفقد حظوظه الانتخابية لصالح السياسية المتطرفة مارين لوبن، وهذا يتطلّب منه تسخين مواقفه على حساب المسلمين في بلاده. يكشف هذا بوضوح عن قدرة أقصى اليمين على جرّ الخطاب الرسمي والوسط السياسي خلفه.
دخلت النزعة المكارثية في فرنسا مرحلة الهوَس على ما يبدو، ومِن حول ماكرون مَن يُظهِرون انزعاجهم حتى مِن أقسام المنتجات الحلال في متاجر السوبرماركت الفرنسية، كما يفعل وزير الداخلية جيرالد دارمانان حسب ما ذكر في مقابلة مع قناة BFM الفرنسية يوم 20 تشرين الأول/ أكتوبر.
تجاهل هؤلاء أنّ لفرنسا مصالحها مع العالم الإسلامي، وحسبوا أنّ شعوبه المقهورة أو المسحوقة لا صوت لها، وكانت النتيجة أنّ الشعوب المسلمة أظهرت انزعاجها من وجود المنتجات الفرنسية في المتاجر، واستعملت حقها في التعبير عن الموقف عبر حراك مدني سريع مع تفاعل هائل في مواقع التواصل الاجتماعي.
ما يصرِّح به الوزير دارمانان يُظهِر تجاوُز وزراء الداخلية في فرنسا نطاق وظيفتهم بطريقة فجّة عندما يتعلّق الأمر بالمسلمين، وهذا ما فعله وزير الداخلية الأسبق جيرار كولومب عندما عبّر مثلاً عن صدمته من رؤية فتاة تستر شعرها على محطة تلفزيونية فرنسية، قائلاً إنّ ظهور القيادية الطلابية في جامعة السوربون مريم بوجيتو يوم 19 أيار/ مايو 2018 "أمر صادم"، لأنها بتعبيره "مختلفة عن المجتمع الفرنسي". تصاعدت هذه التصريحات وصارت اعتيادية في فرنسا بما يكشف عن أزمة عميقة لدى الجمهورية في التعامل مع التنوّع الداخلي.
بعد تزايُد المواقف الفرنسية التي أشعرت مسلمي العالم بالإهانة المتكررة والغطرسة الثقافية واحتكار تفسيرات القيم بصفة انتقائية حسب أهوائها؛ انطلقت حملات مقاطعة المنتجات الفرنسية وحققت استجابة سريعة وواسعة. نطاق الخسائر المتوقعة في هذه الحالة ليست اقتصادية وحسب، فمن المؤكد أنّ خسائر فرنسا المعنوية لا تُقدّر بثمن.
تخسر فرنسا كل يوم من سمعتها العالمية وقوّتها الناعمة ودبلوماسيتها الشعبية، بعد أن ارتبطت صورتها الخارجية بالاستفزاز وخطاب الكراهية والإذلال المعنوي. وفي ظلال ما يجري تسترجع بعض الشعوب الماضي الاستعماري الذي لم تتبرّأ فرنسا من فظائعه بعد؛ بل أصدرت سنة 2005 القانون 158 المخصص لنشر "القيم الإيجابية" للاستعمار الفرنسي.
إنّ سوء التصرّف وسوء التقدير وضعا فرنسا في أزمة حول العالم كان يمكن تفاديها، وإن لم تجرؤ باريس على الاعتراف بذلك.