أطلقت حماس وثيقتها السياسية بعد انتظار طويل ربما أخذ سنوات من النقاش في أروقتها الداخلية لا سيما أن ثمة ميثاقاً يحمل اسمها أصدرته في سنة انطلاقتها الأولى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كان ذلك الميثاق يمثل رؤية الحركات الإسلامية تجاه فلسطين ويعبر عنها مع لمسة فلسطينية محلية.
ظل هذا الميثاق يعكس فلسفة الحركة ورؤيتها رغم أنه ليس صادراً من مؤسسة تشريعية فيها وذلك قبل أن تستقر أجهزة حماس التنظيمية وأنظمتها.
ظل هذا الميثاق بسقفه العالي وتوجهاته غير المعتمدة ولغته الحاسمة وبعض شعاراته غير الدقيقة هو مدخل الآخرين لفهم حماس مما كان يجعلها في تناقض مع سياساتها التي تعلن عنها في بياناتها وتصريحاتها الرسمية مثل كونها ذراعاً عسكرية لحركة الإخوان المسلمين في العالم، وأنها تقاتل اليهود.... كان الجدل يزداد حول الميثاق بين من يدعو لتعديله أو لإلغائه، ويبدو أن حماس اتجهت صوب مربع آخر فقررت أن تبحث عن صيغة أخرى تبين هويتها المعتمدة بعد نضج تجربتها السياسية، وكأنها قررت اعتبار ذلك الميثاق محطة من محطاتها أوصلها إلى وثيقتها الجديدة .
وقد اختارت حماس مصطلح الوثيقة لا الميثاق لكون مفهوم الميثاق يتضمن مفهوم المعاهدة مع الآخرين ويترتب عليه التزامات تجاههم، أما الوثيقة فإنها معنية فقط بتبيين هوية الجهة التي أصدرتها ونظرتها إلى القضايا التي تليها وبما تلزم به نفسها بغض النظر عن وجود الآخر أو عدمه.
وتمتاز الوثيقة بإيجازها ودقة صياغتها وضبط موادها وتقسيم جملها بعلامات ترقيمية تساعد على فهم المراد، ويظهر أنها خضعت لمراجعة شرعية وسياسية وقانونية ولغوية استثنائية حتى رأيناها بهذا الضبط الذي صدرت عليه.
ولعل المادة الأكثر إثارة في الجانب السياسي هو إشارة الحركة إلى أن إقامة دولة فلسطينية على حدود 67 هو صيغة وطنية توافقية مشتركة وتأكيدها أن ذلك لا يعني اعترافاً بالكيان الصهيوني أو التنازل عن أي من حقوقه.
هذه الصيغة موجهة بالأساس في تقديري إلى حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية التي ألزمت نفسها بشبكة اتفاقيات دولية تأسست على مشروع الدولة بحدود 67، وكأن حماس تستدعي حركة فتح وأخواتها سياسياً إلى مشروع المقاومة مجدداً على هذه الأرضية التي يريدون الوقوف عليها حسب آخر مواقفهم؛ وفي الوقت نفسه فقد حصنت حماس نفسها من تبعات هذه الإشارة بجملة كبيرة من المواد في صدر وثيقتها السياسية التي تحدثت بوضوح عن حدود فلسطين التي تلغي فيها تماماً أي وجود (إسرائيلي) حدودي، أي أن (إسرائيل) لا وجود لها في جغرافية السياسة لدى حماس، كما تجدد رفضها لوعد بلفور وعدّته باطلاً لا قيمة له ولا قيمة لكل ما ترتب عليه من إقامة هذا الكيان؛ كما تؤكد حماس في مواد القدس رفضها لكل إجراءات التهويد فيها؛ وتعرّف حماس نفسها بأنها حركة تحررية تهدف لتحرير فلسطين بالتعريف الذي قدّمته من نهر الأردن شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً، ومن رأس الناقورة شمالاً إلى أمّ الرشراش جنوباً، وبالتالي ظهر أن مشروع حماس هو إزالة (إسرائيل) حكماً؛ وحددت حماس رؤيتها بأنها مشروع فلسطيني عربي إسلامي في مواجهة المشروع الصهيوني. وقد حرصت حماس على إعادة توضيح موقفها من الدولة على حدود 67 في مقدمة المادة نفسها لئلا يحصل التباس في هذا الموقف (التكتيكي) عندما شددت على أنه لا تنازلَ عن أيّ جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال وتأكيد رفض حماس لأي بديلٍ عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، من نهرها إلى بحرها، ثم عاودت حماس التأكيد على ذلك في المادة التالية لهذه المادة بإعلان رفضها لجميع الاتفاقات والمبادرات ومشاريع التسوية الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية أو الانتقاص من حقوق شعبنا الفلسطيني، وإنَّ أيَّ موقفٍ أو مبادرةٍ أو برنامجٍ سياسيّ يجبُ أن لا يمس هذه الحقوق، ولا يجوزُ أن يخالفها أو يتناقضَ معها .
وربما هدفت حماس إلى تقديم مشروعها السياسي غير المنسجم في أصوله مع الموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية والتوجهات السياسية الرسمية العربية والمواقف الدولية بمدخل مرنٍ يتيح لها المناورة السياسية والالتفاف على الضغوط الثقيلة، وبناء جسر مع الجهات الدولية لتوضيح مواقف الحركة وأسباب التزامها بهذا المنهج على قاعدة انفتاحها الفكري ومرجعيتها الوسطية المعتدلة التي تتميز فيها عن التيارات المتشددة التي تحمل أجندة عسكرية تتقاطع مع حماس، لكن حماس تختلف عنها في أن مقاومتها في الجانب السياسي تتأسس على تشريع قانوني يقضي بقانونية مواجهة المحتل وحق أي شعب تعرض للاحتلال أي يسعى للتحرر منه؛ ولا شك أن هذا الطرح يتيح للدول العربية والإسلامية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية أن تُنفِّس الضغوط الدولية الواقعة عليها إذا ساندت حماس سياسياً.
وفي الجانب الفكري فقد حسمت حماس جدالاً قديماً حول الموقف من اليهودية وأن موقف حماس هو الموقف من المحتل، فالاحتلال مرفوض يلزم مقاومته لكونه محتلاً بالأساس وليس لكونه يهودياً أو مسيحياً أو بوذياً أو مدعياً للإسلام.
وفي الجانب الفكري أيضاً فقد أعادت حماس التأكيد على مرجعيتها الإسلامية المعتدلة الوسطية وأنها ليست جزءاً من التيارات المتشددة التي تناقض مجتمعاتها وتجرها إلى الاحتراب الأهلي، ووصف حماس نفسها بأنها حركة ديمقراطية تمارس الديمقراطية وتحترمها وتلتزم بنتائجها بخلاف موقف التيارات المتشددة من الديمقراطية، كما أنها تحترم التعدديات الدينية والمذهبية والعرقية لإيمانها بوحدة الأمة كقيمة عليا تتصدر القيم الأخرى في قائمة الأولويات القِيميّة، كما تعزّز تمايزها برفضها التدخل في شؤون الدول وخصوصياتها.
ومن الملف إظهار موقف حماس من العمل المسلح، وأنه خيار استراتيجي يظل قائماً ما دام هناك حاجة إليه للوصول إلى تحقيق الأهداف وأنه لا يمكن تنحية هذا الخيار تحت أي ظرف، وهذا الحديث يختلف عن اللغة الثورية السائدة في الخطاب الفلسطيني بأن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، إذ يفتح هذا الحديث مجالات الحل على قاعدة تفعيل القوة وحمايتها وإبقائها عند الاستعداد.
ومن الملفت أيضاً انحياز حماس إلى البقاء تحت سقف النظام السياسي الفلسطيني المعروف بمنظمة التحرير الفلسطينية ولكن بعد إعادة بنائها على أسس تضمن الشراكة السياسية، مما يعني تخلي حماس عن البحث عن أطر سياسية تهدف إلى تمثيل الشعب الفلسطيني بعيداً عن منظمة التحرير.
وتطرح حماس قضية فكرية سياسية لا تقل أهمية عن طرحها الفكري السابق أن الدولة الفلسطينية هي نتاج التحرير وثمرته أي أنها ليست أولوية قبل إنجاز التحرير، وهذا خلاف البناء الفكري الذي تدعو له منظمة التحرير وبعض الفصائل المنضوية تحتها.
وتختم حماس وثيقتها بما يفهم منه بدعوتها إلى الحق والعدل والحرية ورفض الظلم والاستعباد.