دخلت القضية الوطنية منعطفا حادا وخطرا بسبب التضارب الحاصل بين الرؤى والبرامج السياسية، ومحاولات كل طرف اثبات صوابية نهجه في ظل انقسام سياسي ضرب جذوره في الساحة الفلسطينية، والقى بظلال كارثية على المشروع الوطني بعد الفشل المتكرر في تبني رؤية واضحة ترضي كل الأطراف وتكون قابلة للتنفيذ بحيث تشكل إنهاء للانقسام الحاصل.
فالمتابع للمشهد الفلسطيني يدرك تماما أن الانقسام في الساحة الفلسطينية عميق جدا، ويحتاج لمعالجات جوهرية، انطلاقا من القناعات والبرامج، وصولا لإصلاح المؤسسات الوطنية، في ظل وجود مشروعان أحدهما يستأثر بالقرار الفلسطيني وينفرد بخطوات مصيرية، ويؤمن بالمفاوضات والسلام مع إسرائيل، كمشروع استراتيجي لا يمكن التراجع عنه، ويرى في بقاء التنسيق الأمني مصلحة ضرورية مقدسة.
ومشروع اخر يتخذ من المقاومة والمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي منهجا وسبيلا لتحرير فلسطين، ولديه قناعات بأن طريق السلام هو مراهنة خاسرة وحرق لمزيد من الوقت، ومحاولة فاشلة لاسترداد الحقوق، ولديه أسباب معقولة موضوعيا في هذا السياق، فقد وصل مشروع السلام لنتائج كارثية حيث قسمت إسرائيل الضفة وحولتها لكانتونات تفتقد للتواصل الجغرافي الطبيعي، وتوسعت في الاستيطان بوتيرة متسارعة.
وفرضت واقعا جديدا على المقدسات، وزادت من الجرائم والعدوان على شعبنا، ورفضت الافراج عن الاسرى الفلسطينيين، ونسفت أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية، مستغلة المفاوضات كغطاء لعدوانها وجرائمها ومشروعها الاحلالي التوسعي.
في حين لم تفلح السلطة في جني أي ثمار سياسية يمكن أن تعد انجازا ومكسبا للقضية الوطنية، الامر الذي هيأ بيئة مناسبة لظهور (صفقة القرن) والتي دفعت العرب للتطبيع مع إسرائيل بذريعة أن الفلسطينيين يقيمون علاقات أمنية مع الاحتلال ولديهم تواصل على الصعيد السياسي والاقتصادي وعليه فلا حرج في السير على خطى السلطة!
وبالتالي فإنه لا يمكن المراهنة بعد الان على مشروع التسوية في ظل تنكر المجتمع الدولي للسلطة الفلسطينية، وانحياز الإدارة الامريكية للمشروع الصهيوني والتي قدمت المشروع التصفوي (صفقة القرن) للإجهاز على ما تبقى من حقوق فلسطينية دون الالتفات للسلطة أو مواقفها الرافضة.
بينما نجحت المقاومة في تحقيق إنجازات أعادت الاعتبار للقضية الوطنية من خلال دفع الاحتلال للانسحاب من قطاع غزة عام 2005، وفرضت إرادتها في انجاز صفقة تبادل عام 2011 والتي دفعت إسرائيل للإفراج عن ( 1027) أسيرا، وجعلت كل البلدات والمدن الإسرائيلية التي أقامها الاحتلال على الأرض الفلسطينية تحت مرمى نيران المقاومة، ولازالت المقاومة تشكل المشروع الأبرز والاهم في مواجهة الاحتلال، وتنظر إسرائيل بخطورة لهذا المشروع كمهدد رئيس لأمنها في ظل امتلاكه أوراقا جديدة منها ملف الجنود الأسرى.
وهذا ما جعل الاختلاف عميقا في ساحتنا الفلسطينية الامر الذي أوجد صراعا مريرا دفع ثمنه شعبنا الفلسطيني سنوات من التيه والضياع والحصار، وأبقى الباب مفتوحا للتراشق الإعلامي، الذي تطور لاشتباكات دامية بين أبناء شعبنا، ما أضر بمكانة الشعب الفلسطيني، وأثر سلبا في صورته أمام شعوب المنطقة، واستغلته إسرائيل لتنفيذ مخططاتها الاجرامية.
لكن وفي ظل هذا الوضع المتردي، والتضارب الحاصل بين الرؤى والبرامج فإن شعبنا يحتاج لبرنامج وحدوي يمكن أن يشكل مسارا جديدا للإنقاذ، ويجمع في طياته كل مكامن القوة في الساحة الفلسطينية، وبالتالي فإن التوافق على برنامج وطني موحد يستند لدعم المقاومة يشكل خروجا من النفق المظلم، ويعد فرصة حقيقية لتصحيح المسار في مواجهة المخاطر والتحديات.
وهذا بدوره يتطلب من جميع الأطراف نبذ جميع أسباب الخلاف، والعمل على تقريب المسافات، ووقف السجال الإعلامي، وعدم السماح بالتدخلات الخارجية، واتخاذ قرارات جريئة لتخطي كل العقبات في وجه الوحدة، ووقف المراهنات على التغيرات السياسية في الإقليم أو في النظام الدولي، والانطلاق بخطى ثابتة نحو اصلاح جذري للمؤسسات الفلسطينية وتمتين الشراكة السياسية ليساهم الجميع في الاضطلاع بمسؤولياته الوطنية تجاه القضية.