جرس الساعة يصدر رنينًا حينما لفت عقارب دورتها وتوقفت للاستراحة قليلًا عند الواحدة بعد منتصف الليل قبل مسيرها، مساءٌ كئيب يعزف ألحان الخوف في منزل عائلة زقوت في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، بعد أن نجح فيروس "كورونا" في التسلل إلى المنزل ولأفراد العائلة التي تقف على حافة "الافتراق"، جزء منهم سيبقى بالمنزل؛ وآخرون سيذهبون إلى مراكز الحجر.
عصر اليوم التالي؛ وصلت سيارة الإسعاف تتبعها مركبة شرطية أمام عتبات المنزل، الجيران ينظرون من النوافذ؛ يقف الشاب عاصف زقوت (26 عامًا) وهو يحتضن بنظراته والدته وزوجته وطفله الصغير (عامان)، صعدوا إلى سيارة الإسعاف وكأن شيئًا "انتزع من قلبه"، وبقي هو وشقيقاه وأخته، لتعيش العائلة تشتتًا لم تعتده.
"لم يكن الافتراق هينًا علينا، فأخذنا البكاء الشديد عليهم وهم يبادلوننا البكاء من خلف نوافذ السيارة، البعد عن الأهل صعب جدًّا، خاصة الأم، لأنها غالية على قلوبنا، فربتنا أيتامًا منذ صغرنا وهي في ريعان شبابها" كلمات تزاحم فيها الشوق والحنين ما زالت تتصارع بداخله.
"موائد فرح غائبة"
وجدت العائلة تقنيات مواقع التواصل الاجتماعي فرصة للتواصل المستمر عبر تطبيق (ماسنجر)، لكن هذه الوسائل لم تعوض "لمات العائلة" على موائد الفرح.
خلال مدة الحجر مرت ذكرى زواج زقوت مختلفة هذا العام، حرمت الأزمة الزوجين الاحتفاء بيوم منقوش في قلبيهما، يوثق لحظات ارتباطٍ وعقد يجدد بينهما الحب والعهد كذلك، فإحياؤه "مقدس" خاصة في سنوات الزواج الأولى، إلا أن البعد والافتراق كانا سيدي الموقف هنا.
يحدِّث الشاب زقوت صحيفة "فلسطين" عن روتين الحجر بمنزله: "أنت بحاجة لتنظيم وقتك خلال أيام الحجر؛ مثلًا تنفيذ فقرات ترفيهية وأنشطة، ووقت للجوال، والتلفاز".
"إلى درجة أننا كنا نسلي أنفسنا بالأكل عندما لا نجد ما نفعله" صاحب كلامه ضحكة عبرت حديثه، أتبعها ابتسامة أخرى شارحًا حاله وحال إخوته خلال الحجر: "أنت تعلم الشباب ليس لديهم خبرة بموضوع الأكل، والقشط، والغسل، فتناوبنا على ذلك، كل واحد حسب درايته".
لم يجد الشباب صعوبة في توفير الاحتياجات، فأحيانًا كانت تصلهم إلى باب البيت دون علمهم بها، في جعبته تفاصيل أكثر: "كنا نوفر الاحتياجات بالاتصال على بعض الأصدقاء ونعطيه قائمة احتياجاتنا، ويشتريها لنا، وفي بعض الأحيان الاحتياجات الضرورية للبيت، والعاجلة، كان يخرج أخي لشرائها مع التزام إجراءات الوقاية والسلامة، فيقف خارج البقالة ويطلب الاحتياجات ويضعونها له على الأرض بعيدين عنه مسافة مترين".
عدة مرات تفاجأت العائلة بوجود طرود على باب المنزل من جهات مختصة دون علمها أو تبليغها، وقد جاءت في وقتها في كثير من الأحيان، كل يومين أو ثلاثة كانوا يجدون المعلبات، وبعد مضي أيام مثلها يأتون بالخضراوات، وهكذا أعين هؤلاء الشباب على تلبية احتياجاتهم.
"عين المصور معطلة"
"بعد فرض الحجر المنزلي على أسرتنا المكونة من 18 فردًا موزعين على ثلاثة طوابق، انقلبت الأمور رأسًا على عقب؛ اختلف الروتين اليومي لكل شخص عن الأيام العادية" هكذا بدت الحياة في منزل المصور الصحفي عبد الحكيم أبو رياش.
في منزله الواقع بمنطقة بيت لاهيا، إحدى بؤر تفشي الفيروس في قطاع غزة، تغيرت حياة الأطفال من اللعب وأجواء الرحلات البحرية والنزه إلى الأراضي الزراعية شمال المنطقة، فأصبحت سجينة داخل أربعة جدران، "الحياة داخل المنزل أشبه بخوف وترقب، هل الشخص نفسه مصاب أم لا؟، هل ظهرت عليه الأعراض أم لا؟، حتى إن بعضنا ظهرت عليه علامات ارتفاع درجة الحرارة وقشعريرة بالجسم أو التعب من شدة الخوف والتوتر والقلق النفسي" هكذا كانت الأجواء.
ينقلنا إلى داخل المشهد أكثر: "شعور صعب، فجأة حياتك اليومية تتغير من حياة طبيعية إلى أشبه بشعور من القلق والتوتر، من حياة تذهب فيها كل يوم إلى عملك أو التنزه هربًا من الوضع الكئيب لتجلس في البيت لتحافظ على صحتك وصحة غيرك".
أغلقت أزمة الجائحة عدسة المصور عبد الحكيم؛ وبقي مقيدًا تحت حكم أيام الحجر التي لم تنتهِ بعد، "كل الأصدقاء يتصلون ويأتون بالأغراض اللازمة لنا" هذا ما هون عليهم مرارة الحجر وصعوبته.
"التزام غير مجدٍ"
لم ينقذ التزام محمد الداية (37 عامًا) الحديدي وأسرته، منعزلين عن العالم الخارجي، من فيروس كورونا الذي نفذ إلى رئتيه، ليجد نفسه قبل 14 يومًا يعيش على وقع أعراضه: وجع بالعظم، وعطاس بسيط، وفي اليوم ذاته نظر إلى أولاده فوجدهم يعانون الأعراض نفسها، ما دفعه للاتصال مباشرة بأرقام الطب الوقائي لوزارة الصحة، وطلب إجراء فحص، ظهرت نتيجته موجبة، أي أنه مصاب بالفيروس.
الداية الذي يسكن بمنطقة النفق بمدينة غزة نقل إلى مركز حجر بمحافظة خان يونس، تاركًا خلفه زوجته تتولى مسؤولية إدارة شؤون البيت، والأولاد، حملت همومًا ثقيلة لم تعتدها من قبل، لكنها "إجراءات فرضتها الجائحة حكمت الجميع"، كما حكمت بافتراق هذه العائلة، ولو مؤقتًا.
"أشغلت نفسي بالصلاة وقراءة القرآن، فضلًا عن وسائل كثيرة ومتعددة لتسلية الشباب، أخطب بهم يوم الجمعة لكوني خطيبًا في الأصل، وخريج تربية إسلامية وأقدم لهم بعض المواعظ الدينية" ومع ذلك مضت أيام الحجر ثقيلة على محمد؛ فقد كان قلبه وباله وكل مشاعره منشغلة هناك مع أفراد أسرته، يشغل باله "احتياجاتهم" أتوافرت أم لا، فكان يحاول قدر الإمكان إدارة شؤون المنزل عن بعد من مركز الحجر عبر الاتصال على بعض أقاربه لإيصال احتياجات المنزل.
يعتقد أن الفيروس استطاع النفاد إليه من طريق بائعي الخضار الذين يأتون حارتهم من الحارات المجاورة، التي تعاني زيادة في حالات الإصابة، يزيد: "لم أخرج من المنزل قط، سوى لشراء الخضار، وربما من هنا وصل إلي".
مر بمواقف عديدة في الحجر، لكن هذا الموقف ترك أثرًا وغصة في قلبه: "توفيت والدة أحد المحجورين، كان المشهد محزنًا حينما جاءت سيارة الإسعاف تقل جثة والدته، ينظر إليها من خلف سور مركز الحجر، لا يستطيع تقبيلها أو لمسها، في إجراء احترازي".
أنهى محمد 15 يومًا؛ وعاد إلى منزله، تسمع عبر سماعة الهاتف أصوات طرق صادرة حوله، ابتسم معها خاتمًا بها حديثه: "أصلح صنابير المياه، لعائلتي التي عانت في غيابي".