ظللت عاشقاً لاتفاقية أوسلو، وللتطبيع مع إسرائيل حتى ارتطمت قناعاتي بأرض الواقع، وبالأطماع الإسرائيلية التي تجاوزت حدود غزة والضفة الغربية إلى البعيد، أطماع قرينة التاريخ الذي تعبأ في أباريق قديمة عن ممالك إسرائيل، وعن جبل الهيكل، وعن الأرض التوراتية، وعن سيادة شعب الله المختار على بقية شعوب الأرض.
لقد خرجت من السجن فرحاً باتفاقية أوسلو، مستبشراً بالسلام، حتى كانت الصدمة الأولى في الليلة الأولى التي نمت فيها بين أفراد أسرتي، فقد قمت من نومي مذعوراً من صوت الرصاص، إنها المرة الأولى التي أسمع فيها إطلاق النار بعد عشر سنوات من صمت الزنازين، فما الذي يجرى؟ أين اتفاقية السلام؟
في الصباح، طفت حول المخيم أستجلي الأمر، فقال لي الناس: كان سياج المستوطنة هناك بعيداً قبل التوقيع على الاتفاقية، ولكن المستوطنة اليهودية زحفت باتجاه مخيم خان يونس للاجئين بعد التوقيع على الاتفاقية، حتى صارت ملاصقة تماماً للمخيم، بل قام المستوطنون بتسييج المخيم بالأسلاك، فإذا باللاجئين الذين تم تهجيرهم من مدنهم وقراهم في فلسطين قبل عشرات السنين، يجدون مخيمهم محاصراً بالمستوطنات، ولا منفذ لهم إلى البحر إلا من خلال الحاجز الإسرائيلي!
سألت العارفين عن سر الاتفاقية، فقيل لي: المستوطنات اليهودية تمددت على المساحة التي حددتها الخرائط المرفقة بالاتفاقية، فقد كانت مساحة المستوطنات في قطاع غزة 23 كيلومترا مربعا، وبعد التوقيع على الاتفاقية تضاعفت مساحة المستوطنات في قطاع غزة، فصارت 46 كيلومترا مربعا.
وكانت الصدمة الثانية حين رشحت نفسي لانتخابات المجلس التشريعي الأول الذي جرى في 20/1/1996، لقد زفت لنا السلطة البشائر عن موافقة إسرائيل على زيادة عدد أعضاء المجلس التشريعي الذي سينتخب من 82 عضواً إلى 88 عضواً، وكانت الفرحة الفلسطينية كبيرة، لقد وافقت إسرائيل على زيادة ستة مقاعد للمجلس التشريعي، وكان نصيب خان يونس مقعداً، وكان نصيبي المزيد من الاحباط، إذ كيف تتحكم إسرائيل بأدق تفاصيل حياتنا التي ندعي أننا نمتلكها؟ وكيف ستصير لنا دولة، ونحن لا نمتلك من أمرنا شيئاً؟
وكانت الصدمة الثالثة: في أثناء انعقاد المجلس الوطني بتاريخ 20/4/1996، لقد شاركت جلسات المجلس، وحين راقبت مدى اهتمام أعضاء المجلس الوطني بما يدور في الجلسات، صفعتني الريبة، فما هكذا تكون الجلسات، ولا بهذه الطريقة تناقش قضية فلسطين من أهلها، لقد وجدت الانضباط والالتزام بالجلسات التي كان يعقدها الأسرى في غرف السجن، أكثر بكثير من جلسات المجلس الوطني، لقد مرت الجلسات بلا نقاش جدي، وبلا تدقيق بالملفات، وتمت الموافقة على تعديل فقرات الميثاق، وكأننا في زفة عريس، وكأن الذي كتب الميثاق الوطني الفلسطيني جيل يختلف عن هؤلاء الذين يوافقون على تعديل فقراته استجابة لاتفاقية أوسلو.
وفي اليوم التالي لتشكيل اللجان، حيث تم تكليفي بأمانة سر لجنة اللاجئين في المجلس الوطني، جاءتني الصحفية الإسرائيلية "عميرة هس" وعرضت علي خريطة للضفة الغربية، تظهر المستوطنات الإسرائيلية الموزعة في كل مكان، والتي ستحول دون قيام دولة فلسطينية، فأخذتها إلى قاعة اللجنة السياسية كي تطرح الأمر، وتناقش أعضاء اللجنة، ولكن لا حياة لمن تنادي، كان رد اللجنة ورئيسها، نحن نعرف ذلك، هذه اتفاقية انتقالية، بعد ثلاث سنوات ستزول كل هذه المستوطنات، وتقوم دولتنا، وخرجت الصحفية الإسرائيلية محبطة، وهي تقول: كيف ستقام الدولة الفلسطينية؟
وكانت الصدمة الرابعة سنة 1997حين توجهت بصفتي نائب رئيس بلدية خان يونس في ذلك الوقت، برفقة رئيس البلدية د. أسامة الفرا، والمستشار القانوني للبلدية عصام أبو دقة، واصطحبنا كباش البلدية، واتجهنا إلى شاطئ البحر، وكان هدفنا إزالة اعتداءات الجيش الإسرائيلي على شاطئ البحر، ومنعه من التوسع خلافاً لنصوص الاتفاقية.
اعطينا الأمر لسائق الكباش الذي بدأ بإزالة السياج الذي وضعه الجيش الإسرائيلي، ونحن نرافقه، حتى تدخل الجيش، وأطلق علينا النار، ولكننا لم نأبه، وحين واصلنا العمل، استدعى قائد الدورية مساعدة، فجاءت عدة عربات جيش وعدة مدرعات، وأطلقوا النار على عجلات الكباش، وأطلقوا علينا قنابل الغاز قبل أن نكمل إزالة التعدي، وقتها لاحت لنا فكرة الاعتصام في المكان، وقد تحقق ذلك لعدة أيام، حيث شاركنا الاعتصام آلاف المواطنين الذين ما انفكوا يشتبكون مع الجيش الإسرائيلي.
وفي اليوم الخامس، جاءت القيادة الفلسطينية إلى المكان، وطلبت منا إنهاء الاعتصام، وعدم الاحتكاك مع الجيش، وحين سألنا عن السبب، وكيف نتخلى عن جزء من شاطئ البحر للإسرائيليين، فكان الرد: هذه هي اتفاقية أوسلو، وهذه الخرائط، لقد قسمت شاطئ بحر قطاع غزة بين المستوطنين وسكان قطاع غزة، فشاطئ البحر تحت السيادة الإسرائيلية الخالصة من حدود مصر في الجنوب وحتى مسافة خمسة كيلو مترات، ثم يصير شاطئ البحر تحت السيادة الفلسطينية والإسرائيلية مسافة خمسة كيلو مترات، وهكذا حتى ينتهي شاطئ البحر في الشمال تحت السيادة الإسرائيلية الخالصة.
لم تنتهِ حكاية الأطماع الإسرائيلية بعد.