أنا أحد الأسرى الفلسطينيين الذين حررتهم اتفاقية أوسلو من السجون الإسرائيلية، وأعترف أن المعلومات التي وصلتنا إلى غرف السجن قد زينت لنا اتفاقية أوسلو، وتحدثت عن فترة انتقالية مدتها 4 سنوات، وعن دولة ستقوم بكل تأكيد، وعن تحرير كل الأسرى، وعن عدم الاحتكام للسلاح في حل الصراع، وكل ذلك جعلني وغيري نصفق للسلام، ونهتف لاستراحة المقاتل، ونحلم بغَدٍ يخلو من الرصاص والموت والسجون والتخلف والفقر والبطالة.
وكان لاحتكاكي اليومي مع السجان أثر في تنمية علاقة إنسانية بعيدة عن الصراع الميداني، وقد سمح الحوار اليومي مع السجان بمناقشة أحوالنا، ومصير هذه البلاد بعد كل هذه الحروب والقتل ونزف الدماء، لقد سمحت لي جدران الزنازين بالتعرف على الشق الإنساني من حياة البشر، فللسجان في بعض الأحيان وجه إنساني آخر يخالف وجه السجان المعروف بالغلظة والتوحش، وللسجين في بعض الأحيان قلب موجوع بالغربة والحنين، وفي هذه الحالة تكون كل يد تمتد بالمساعدة لسجين مريض هي يد إنسانية، لا تقطع، ولا ترجم بحجر، فلقطرة الضوء قدرة على تهشيم جدران الظلمة، ولو للحظة، لذلك كانت ابتسامة الطبيبة اليهودية "ليئة شيفر" التي أجرت لي العملية الجراحية في عمودي الفقري أعذب ابتسامة، وهي تقول لي بفرح: لقد نجحت العملية، لقد صار بيني وبين الطبيبة فرح مشترك، وكان لهذا الفرح المشترك بنجاح العملية الجراحية تأثير عميق في نفسي، وولد بداخلي شفقة على الناس جميعهم، فنحن أبناء آدم، نأمل ونحزن ونحلم ونتوجع ونحب ونكره وتتشابه دموعنا، ونحرص على الحياة، لقد كونت تلك التجربة رغبة صادقة في داخلي بالتعايش بسلام مع هؤلاء البشر، والتوقف عن محاربتهم، فطالما هم يفتشون عن السلام، فمن واجبنا نحن أن نسعى إليه، ونستحث الخطى.
مستنداً إلى تلك التجربة الشخصية، خرجت بعد عشر سنوات سجن بقناعة لا تشوبها شائبة، بأن السلام هو الطريق الوحيد للازدهار، وأن الحرب طريق التهلكة، وأننا في غزة والضفة الغربية لسنا بحاجة إلى السلاح لمحاربة إسرائيل، ولا لمعاداة غيرها، ولسنا بحاجة إلى قوات أمن وجيوش ومخابرات، نحن بحاجة إلى ألف رجل شرطة فقط، يحفظون لنا الأمن الداخلي، لنعيش بسلام واطمئنان من جيراننا الإسرائيليين، لقد آمنت بالفكرة، وكنت جريئاً في طرحها خلف الأسوار، وكنت أردد في جنبات السجن، وعلى مسامع الأسرى بأننا بحاجة إلى التعلم من الإسرائيليين، والاستفادة من تجربتهم الديمقراطية، ومن أسلوب حياتهم، ومجاراتهم في تقدمهم، ومنافستهم في تطورهم، يجب أن نكون أكثر منهم نظاماً ونظافة وترتيباً، وأحرص منهم على التعددية الحزبية، وأكثر منهم طلباً للعلوم والعمل بلا كلل، وكانت كل هذه الأفكار محور محاضراتي السياسية اليومية للسجناء في باحة السجن.
لقد نسيت الماضي أو تناسيت، وأغمضت عيني عن آلاف الشهداء الذين ذبحتهم سكين الحقد الصهيوني، ودست على وجداني بأحذية الواقع، وغضضت الطرف عن أكوام الممارسات الإسرائيلية الإرهابية ضد أمتنا العربية، وحرضت زملائي الأسرى على ضرورة فتح صفحة جديدة للمستقبل، وتحدثت لهم إن أهمية التطبيع مع العدو الذي يجب أن نحاصره بإنسانيتنا، وموقفنا الثابتة من السلام والتعايش، وهذا ما أظهره استطلاع للرأي جرى في حينه، يتحدث عن أغلبية فلسطينية مقتنعة تماماً بإمكانية التعايش بسلام مع الإسرائيليين.
فما الذي حصل؟ كيف تغيرت الأحوال؟ لماذا صرت الأكثر اقتناعاً بأن لا سلام مع عشاق الموت والظلم واحتقار البشر والأطماع؟ ولماذا أظهر آخر استطلاع للرأي أن 90% من الشعب الفلسطيني مقتنع بأن الإسرائيليين لا يفتشون عن السلام، ولا يؤمنون به؟
الإجابة عن الأسئلة السابقة في مقال لاحق.