عرفت العرب قديمًا رحلتين إحداهما صيفًا والأخرى شتاءً، أما رحلة الصيف فكانت نحو الشام، وأما رحلة الشتاء فكانت نحو اليمن، وكان الهدف من هاتين الرحلتين جلب الرزق إلى ديارهم، التي كانت أرضًا قفرًا لا ماء فيها ولا زرع، وقد ذكر الله (سبحانه وتعالى) هاتين الرحلتين بكتابه في سورة قريش، مذكرًا العرب بنعمة الله عليهم من هاتين الرحلتين بتحقيق أمنهم الغذائي وأمنهم الوطني، وقد جاء ذلك في عجز السورة الكريمة بقوله (تعالى): "فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف".
بعد أكثر من ألف وأربعمائة عام يقوم العرب برحلتين مشابهتين، ولكن نحو القدس "المغتصبة" تقريبًا للدواعي نفسها، على اختلاف الظروف والأسباب لكل من ذهب أو سيذهب بإحدى هاتين الرحلتين، فالقبيلة العربية الأولى ذهبت في رحلة الصيف نحو القدس المغتصبة من اليهود، وكان ذهابها طلبًا للأمن "المفقود"، أما القبيلة الثانية التي تزمع على القيام برحلة الشتاء فتذهب طلبًا للرزق وتحقيق الأمن الغذائي.
من المفارقات العجيبة أن العرب قديمًا حينما قاموا بهاتين الرحلتين كانت بلادهم قفرًا وأرضهم قاحلة، وليس لهم قوة تذكر في ذلك الزمان، أما اليوم فالقبيلة التي ذهبت إلى رحلة الصيف طلبًا للأمن ما زالت جيوشها تحارب على حدودها الجنوبية منذ خمس سنوات، مستخدمة أحدث أنواع الأسلحة والعتاد ضد قبيلة عربية أخرى بعد أن مكنت لها في تلك الأرض، ولكن انقلبت مخططاتها رأسًا على عقب، فبعد أن تمكنت حليفتها التي تخالفها في المذهب من تلك الديار نقضت عهدها، فوقع ما كان محظورًا ولم تفلح كل الوساطات بإعادة الأمور لسابق عهدها، فشنت الحرب الضروس بلا طائل منذ خمس سنوات خلت، أما القبيلة التي تنوي الذهاب في رحلة الشتاء طلبًا للرزق فقد حباها الله نهرين يجريان وأرضًا خصبة شاسعة مترامية الأطراف تستطيع إطعام العرب جميعًا، لو أحسن استغلالها، ولكن من العجب العجاب أن تذهب هذه القبيلة في رحلتها الشتوية نحو القدس المغتصبة من الصهاينة طلبًا للرزق، وأن تذهب القبيلة التي تملك المال وتجيش الجيوش في رحلتها الصيفية طلبًا للأمن.
وإذا كان العرب قديمًا قد حققوا أمنهم الغذائي والوطني برحلتي الشتاء والصيف بعزة وكرامة، دون منة من أحد، ولم يخونوا في سبيل ذلك أبناء جلدتهم ولم يتنكروا لعروبتهم ولم يفرطوا بأرضهم، فإن العرب اليوم يسعون إلى الحصول على "على ما هو بين أيديهم من أمن ورزق" ممن اتخذوه في يوم من الأيام عدوًّا لهم بكل معاني الذل والخزي، معللين ذلك بمصلحة تلك القبيلة رغم وجود المال والخير بين ظهرانيهم، ولكن الله (سبحانه) قد يمنع الإنسان النعمة وهي بين يديه.
ومن الغريب أن يذهب العرب إلى طلب الرزق والأمن من قبائل اليهود، الذين ما عرفهم العرب إلا بالشح والبخل والجبن والخيانة ونقض العهود وبخس الناس أشياءهم، منذ أن جاوروهم في الجزيرة العربية قبل ألف وأربعمائة عام، فهل اختلفت صفات اليهود اليوم عن يهود الأمس؟، أم أن الشواهد تؤكد أن يهود اليوم أكثر خسة وتآمرًا ولؤمًا وكيدًا من يهود الجزيرة العربية قديمًا، ولو كان اليهود حقًّا أهل نخوة وكرم وشجاعة، أكان أخرجهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من مدينته؟، أم أن العرب نسوا تاريخهم ونسوا هدي نبيهم وفقدوا رسالة حضارتهم وما عادت تغني عنهم جيوشهم وأموالهم وأرضهم شيئًا؛ فطلبوا رزقهم وأمنهم من أكثر أهل الأرض جبنًا وبخلًا؟!، كيف يخون العربي أخاه العربي وقد كان يبذل دمه وماله وبنيه في سبيل إغاثة اللهفان ونصرة المظلوم؟!، هل نسي العرب مآثرهم التي تغنى بها الأدباء والشعراء على مر الزمان من المروءة وعلو الهمة والوفاء بالعهود والشجاعة والفروسية والكرم؟!، أم أن ما يحدث اليوم هي كبوة عربية لن تطول مدتها، لتعود عاديات بني يعرب مظللة براية الإسلام تضرب الأرض طولًا وعرضًا تجدد مجدًا ليس ينساه التاريخ وتعيد حضارة تشرق شمسها على ظلمة آذن فجرها بالبزوغ؟