كنت حينذاك طفلًا صغيرًا وكانت فيروز تبحث عن شادي بين تلال الريف الحزين بعد أن مضى على نكبتنا يومها عشرون عامًا، واغتصب الاحتلال (الإسرائيلي) أرضنا الخضراء وقتل الأطفال والنساء، وشرد الآلاف منهم، وسرق البئر من أصحابها عنوة بقوة السلاح.
مشاعر شادي كانت تحركه نحو الوادي البعيد، فأخذ يركض ببراءة الطفولة ويسرح بين التلال والحكايات يناظر الحرب من مكان بعيد قبل أن تغافله اليد الآثمة، وفيروز تغني وتركض خلفه تحمل خوفها بين جنباتها، والأحداث تمر سريعة قبل أن يكتب عليه الضياع وعلى أحلامه البريئة الاندثار.
وعادت فيروز لتنشد: "أجراس العودة فلتقرع"، وبينما الطفل يتفقد أباه وجده بين الركام بعدما زرعا الأرض الخضراء حتى تقرحت أيديهما وملأت تجاعيد السنين وجهيهما في تغريبة فلسطينية حذفت قسرًا من القاموس العربي، وكأن التغريبة في نظر هؤلاء مسلسل يسرد حكايات النكبة الفلسطينية الأليمة فقط، وما علموا أن حلم العودة مغروس في تلك التجاعيد، كلما مر عليه الزمان تفتحت مكللة بالورود على جثامين الشهداء حين نشيعهم، وكأنها لم تكن نكبتهم.
في ذلك الزمان كان هناك أمل لدى الطفل أن خلفه جيوشًا وعسكرًا، يتكئ على نصبهم، يرتسم العربي في مخيلته ممشوقًا، وتغني فيروز ويغني أصحاب الحلم العربي قصيدتهم، وأجراس النكبة هناك تقرع طبولها، وتمضي الأيام وذاك الطفل لم يكبر، ما زالت قدماه تمضيان به إلى حلم العودة، يتنقل من انتفاضة الحجارة إلى انتفاضة الأقصى إلى هبة المقدسيين هناك في ساحة النزال يداعب الأحجار بمقلاعه ويرجم به جيش الاحتلال، وينشد في لهفة: "بلاد العرب أوطاني" يغني ويدندن، يتأمل فيمن يلوح له من بعيد عله يرى الطريق أو حتى يلوح له صاحب العباءة المهاب ليأخذ بيده الصغيرة، فأمله معلق بتلك الجيوش تقاتل الاحتلال، تفكير طفولي محض.
مضت السنين سريعًا مع كل لحن تبحث فيه تلك الطفلة عن شادي، ومع حلم عربي يزيل ظلمة الليل الحالك، ومهما بعدت المسافات فلا يزال شعاع النور يلمع من بعيد والأمل يكبر مع الطفل.
ضاع شادي يا فيروز، فقد ولى زمن الانتصارات العربية، وأصبح أصحاب العمائم يبحثون عن أمجاد مزيفة، ودبت الفرقة بين الإخوة اللاهثين خلف السلام المزعوم، أصبحوا يدفعون ثمن حماية أمريكية لم تكن لو أنهم لم يخضعوا، وأصبحت جيوشهم العتيدة العصا التي يرفعونها في وجه الشعوب الثائرة، ليحموا بها سلطانهم المزيف وكروشهم الكبيرة، ولو أنهم تمسكوا بعروبتهم لما صار هذا حالهم.
ضاع شادي، فقد مضى زمن بعيد وذاك الطفل لم يكبر بعد، هوت أحلامه وذهبت أدراج الرياح، مع تأشيرة عبور أو لقمة عيش يقتات منها شعب حاصروه بين البحر والاحتلال وعمق عربي هناك في الجنوب، كي ترضى أمريكا عنهم وتلبسهم تاج الحصانة، وبدأت الحصون العتيدة تتساقط كأوراق الخريف، فكل يوم يسقط حصن من تلك المنيعة ويكشف عن زيف جديد في وطننا العربي الأكبر، ونكبة شعبنا تتمدد بين براثن الأزمان، وقضيتنا باتت رهن مصالح خرافهم السمينة.
كبرت أنا والطفل لا يزال في صدري ولم يكبر وأصبح حلمه مجرد لعاب يسيل على دمية جديدة أو كسرة خبز يابسة، يلازمه التيه، ويقلب ذكرياته من نكبة إلى نكسة ومن مذبحة إلى حصار، ليستقر به المقام عند فُرقة حمقاء في سبيل رضا أمريكا و(إسرائيل)، يتنقلون بين العرافات ومزادات التطبيع، والطفل يلعن فيهم صمتهم وقلة حيلتهم.
وتتسابق الخطوات العربية تجاه (إسرائيل) في مسار بعيد كل البعد عن قضية شادي ويباعد بين حلمه بالعودة إلى وطنه وأرض أجداده، وكرة الجليد تتدحرج مع إشهار بعض العرب التطبيع والتعاون مع (إسرائيل) في العلن، بدأت بمؤتمر البحرين التطبيعي الكبير، وعلى المنصة عراب التطبيع كوشنير وكأنه شاعر في عكاظ العرب، بارع في إعلان المزادات، وأصحاب العمائم يتسمرون ويستندون وينصتون لكلماته غير العربية، لعلهم يفهمون ماذا باعوا وما الثمن، فالبيع نفطهم؛ والثمن دم شعوبهم، وتكمل مشوار إعلان التطبيع دولة الإمارات تلحقها البحرين بركبها ويساق إلى جانبهم في حظيرة التطبيع عساكر السودان.
ضاع حلم التحرير بأيد عربية وضاعت معه أنغام العروبة يا فيروز، وأصبحت القضية الفلسطينية مجرد مذكرات خطها الطفل بيديه على تلال قريته البعيدة، بعد أن تركونا وحدنا نقاتل، وتآكلت مركزية الصراع العربي (الإسرائيلي) وحصرت بين الفلسطينيين و(إسرائيل).
لكن الطفل على صغر سنه يحمل بين ضلوعه قلبًا حجريًّا يغضب، ففي غزة الصمود كبر فيه الثأر، وفي عرقه تنبض كرامة المقاتل من زمن النبوة، وأزيز رصاصهم يضج في أذنيه كل يوم، لتنهض معه ثورة قلب ثائر، ويهب رجال المقاومة الفلسطينية أنْ لا تحزن معك الله يا أعظم شعب، حتى لو باع أصحاب العمائم وطنهم الأكبر وتجاوزت نكبتنا اثنين وسبعين عامًا، فهنا جيش عظيم يصنع المستحيل ويضرب بيد من حديد، يتنقل بين المعارك ويحقق الانتصارات العسكرية والأمنية، يسحق الباغي ويخطف جنوده ويؤلم عدوه في محطات فلسطينية مشرفة، فلتمسح دمعك يا ولدي، فالطفل فيك، وإن لم يكبر فهو لم يهن؛ فخلفه جند ثائر يصنع المجد الكبير.
ضاع شادي يومًا، لكنه ما زال موجودًا هناك في باحات الأقصى يصلي بين الجموع، وهنا في قلب مقاوم على ثغر غزة الباسم، ينتظر بكل أمل لحظة الرجوع المرتقبة.