أبدى الإسرائيليون احتفاءهم وترحيبهم باتفاقات التطبيع السابقة مع الإمارات والبحرين، لكن ردود فعلهم إزاء اتفاق اللحظات الأخيرة مع السودان لها طعم آخر ومذاق مختلف.
ففي الدقيقة التسعين، وقبيل خوض الانتخابات الرئاسية الأمريكية، اقتحم البيت الأبيض العاصمة السودانية الخرطوم، ونجح بالتوصل إلى اتفاق معها بشأن التطبيع مع (إسرائيل)، ما يثير التساؤلات عما يبحث عنه السودان في (إسرائيل)، والفائدة التي تجدها الأخيرة لديه، ومدى تركزها في عدد غير قليل من المجالات والنواحي.
من الناحية الاقتصادية، ستكون السودان سوقًا للبضائع الإسرائيلية، ومن الناحية الإستراتيجية ستمنح (إسرائيل) قطاعًا طويلًا على حدود البحر الأحمر، بفضل علاقاتها الحالية مع إثيوبيا وإريتريا ومصر، والآن مع السودان.
كما أن الوجود الإسرائيلي سيأخذ اتساعًا واضحًا في المنطقة المضطربة التي تشمل مصر وتشاد وجنوب السودان، فضلًا عن إعادة اللاجئين السودانيين المتسللين لـ(إسرائيل) إلى بلادهم، بجانب السماح برحلة جوية من وسط إفريقيا وتقصير الرحلة إلى أمريكا الجنوبية ساعتين كاملتين، فضلًا عما يمكن وصفه بانتصار رمزي لـ(إسرائيل)، لأن الاتفاق أبرم مع الخرطوم صاحبة "اللاءات الثلاثة" الشهيرة بعد حرب حزيران 1967م.
لا شك أننا أمام نقطة تحول في علاقات (إسرائيل) مع السودان، بالنظر إلى تاريخ العلاقات التي بقيت سيئة طوال معظم السنوات والعقود السابقة، لأنه خلال حرب 1948م زاد السودان من قواته العسكرية المحاربة بجانب الدول العربية الأردن ومصر وسوريا في القتال ضد (إسرائيل)، أما خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي فقد ساعد ضباط الجيش الإسرائيلي وعناصر جهاز الموساد بتدريب القوات الانفصالية جنوب السودان.
يستذكر الإسرائيليون في هذه الأيام حرب 1967م، وما تخللها من مشاركة السودان في الأعمال الحربية ضد (إسرائيل)، وبعد انتهاء الحرب، في أغسطس تحديدًا، عُقد مؤتمر القمة العربية في الخرطوم، وأعلن "اللاءات الثلاث": (لا اعتراف، لا مفاوضات معها، لا سلام معها)، لكن بعد حرب 1973م نشأ دفء في علاقة (إسرائيل) بالسودان، وفي 1982م زاره وزير الحرب الراحل أريئيل شارون، وفي الثمانينيات ساعد السودان في عملية جلب يهود إثيوبيين إلى (إسرائيل).
تتوقف المحافل الإسرائيلية عند حقبة وصول الرئيس السابق عمر البشير إلى السلطة في السودان، وحينها شهدت العلاقات الثنائية انتكاسة من جديد، إذ نفذت (إسرائيل) عدة هجمات في السودان على مر السنين، بزعم أنها ساعدت حركة حماس في نقل الأسلحة من إيران.
هكذا ينقل الاتفاق الإسرائيلي مع السودان هذا البلد العربي الأصيل من العداء للاحتلال الإسرائيلي طوال سبعين عامًا -وهو الوضع الطبيعي- إلى التطبيع معه، وهي الحالة الشاذة، ونادرًا ما استغرقت الحالات الاستثنائية حقبة طويلة من الدهر، لأنها سرعان ما تتهاوى، ويعود السودانيون إلى تاريخهم الناصع، المناصر لفلسطين، والمعادي لأعدائها.