عاشت تركيا عاصفة جدل وتراشق إعلامي قصيرة ليلة الرابع عشر من أكتوبر الجاري بين السياسيين والنشطاء الأتراك المؤيدين والمعارضين لحزب العدالة والتنمية، بعد تغريدة على الحساب الشخصي لعضو المحكمة الدستورية إنجين يلدرم، قال فيها: "إن الأنوار مضاءة"، مرفقًا معها صورة للمحكمة الدستورية وأضواؤها مشتعلة.
وقد تكون الجملة غير مهمة ولا ذات معنى لدى القارئ العادي، لكن المواطن التركي مباشرة فهم المغزى، إذ كانت هذه الجملة هي الكلمة السرية التي استخدمت في الإشارة إلى قرب تدخل الجيش في الحكم قبيل الانقلابات العسكرية في تركيا؛ ففهم الأمر على أنه تهديد بتدخل المحكمة في تغيير نظام الحكم، أو رسالة لتشجيع أطراف في الجيش على الانقلاب على نظام الحكم في تركيا.
تسببت التغريدة بردات فعل حادة، خاصة من الحكومة وأنصار الحزب الحاكم، حتى وصل الأمر إلى التهديد بأن ردة الفعل ستكون أعنف لو فكر أحد بأي تدخل في تغيير نظام الحكم خارج صناديق الاقتراع، حتى إن الحساب الرسمي لوزارة الدفاع رد بأن أنوار وزارة الداخلية لم تطفأ قط، وأطلقت حملة تطالب القاضي بالاستقالة من منصبه، بسبب التغريدة التي تتناقض مع دولة القانون التي يمثلها، وأنها تسببت بإهانة للمحكمة وجعلتها عرضة للتطاول والنقد من الشارع التركي، حتى الرئيس التركي شارك في الدعوة للاستقالة في خطاب له قبل يومين.
بغض النظر عن تفاصيل أسباب هذه التغريدة، واعتذار القاضي عن سوء الفهم الذي تسببت به، وكذلك اجتماع المحكمة الدستورية بكل أعضائها اجتماعًا طارئًا لنفي التهمة عن نفسها، يتبادر سؤال للأذهان: هل فعلًا هناك احتمال لعودة الانقلابات لتركيا أم أن عهد الانقلابات ولى دون رجعة؟
فقد عاشت تركيا منذ تأسيس الجمهورية العديد من الانقلابات العسكرية، إما بالقبضة الحديدية الواضحة أو الحديدية المغطاة بقفاز من حرير، علمًا بأن كل محاولات الانقلابات في تركيا كانت بتخطيط وإسناد خارجيين، خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية.
موجة الانقلابات الأشهر في التاريخ التركي بدأت فقط بعد 10 سنوات من تسليم حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي بتعدد الأحزاب وقبول الديمقراطية، التي سرعان ما انقلب عليها في عام 1960م وأقيل وأعدم عدنان مندريس أول رئيس وزراء تركي منتخب ورفاقه بتهمة الإخلال بالديمقراطية!، رغم أن السبب الحقيقي كان الخطوات التي اتخذها مندريس نحو إضعاف سيطرة العسكر على مفاصل الدولة، وتوسيع مساحات الحرية الدينية للمواطن التركي المتدين، وتوسعة شبكات العلاقات الخارجية التركية مع الاتحاد السوفيتي السابق.
تكررت الانقلابات في تركيا ثلاث مرات كل عشر سنوات تقريبًا، فكان الانقلاب الثاني عام 1970م، لكنه كان انقلابًا ناعمًا إذ لم يتحرك الجيش ولم يعتقل ويعدم أحدًا، بل أرسل كتابه الموقَّع من قياداته العسكرية، وكان هذا الانقلاب هو انقلاب تنافس بين قوى الجيش إذ كان في الجيش تياران رئيسان، أحدهما له ارتباطات بالاتحاد السوفيتي والآخر بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد أفشل التيار الأمريكي محاولة انقلاب من التيار اليساري في الجيش، ثم نفذ انقلابه الناعم بعدها مباشرة على حكومة سليمان ديميريل، ولحقته مرحلة من الحكومات الضعيفة التي استمرت حتى استطاعت الدولة العميقة التي يسيطر عليها الجيش افتعال أزمات سياسية ومواجهات داخلية، ثبت بالوثائق بعدها أن الدولة العميقة ورجالاتها داخل التيارات السياسية خاصة القومية واليسارية هم من تسببوا بها.
هذه الأحداث الدموية فتحت الباب للجيش ليتدخل بحجة فشل الحكومات في إدارة البلاد، وكان الانقلاب في هذه المرحلة من أكثر الانقلابات دموية، إذ قتل المئات بالإعدام أو التعذيب، وأكثر منهم بالاغتيالات وأحداث الشغب المفتعلة، واعتقل أكثر من 650 ألف شخص، وهذا الانقلاب كان بوضوح بشهادة الشهود ومذكرات من عاشوه من صناعة أمريكا، لمنع تركيا من الابتعاد عن السيطرة الأمريكية والاقتراب من روسيا أو التأثر بالثورة الإيرانية، خاصة بعد بروز التيار المحافظ بقيادة نجم الدين أربكان.
لكن التغير في الواقع السياسي الدولي والتطور الإعلامي وزيادة الوعي الشعبي أثر بوضوح على طريقة الدولة العميقة، وما يسمى مجموعة دراسات الغرب في قيادة الأركان، مع تغيير نظام الحكم؛ فقد جاء الانقلاب بما يسمى بعد الحداثي الذي بدأ منذ اللحظة الأولى لفوز حزب الرفاه الإسلامي التوجه في الانتخابات أكبر حزب في البرلمان، واستمرت عبر كل الأدوات المشروعة وغير المشروعة عبر الحملات الإعلامية والقضايا الملفقة واصطناع الأزمات، مرورًا بتهديد شركاء حزب الرفاه من الاستمرار في الشراكة معه، وأخيرًا بالحملات الشعبية المحركة إياها الدولة العميقة التي انتهت بإفشال حكومة أربكان وتكليف دميريل بتشكيل الحكومة للحزب الثالث من حيث العدد في البرلمان، في تجاوز واضح للعرف السياسي، ثم إغلاق حزب الرفاه ومصادرة كل أملاكه ومنع العديد من قادته من العمل السياسي وإغلاق آلاف المؤسسات والمدارس الدينية والأوقاف وجمعيات المجتمع المدني، وكذلك محاربة المتدينين اقتصاديًّا حتى في وظائفهم وأعمالهم، أي أنه يمكن القول إن هذا الانقلاب الذي يسميه بعضٌ زورًا أو جهلًا الانقلاب الناعم كان من أعنف الانقلابات، وهو دون شك أطولها.
وفي عهد العدالة والتنمية كانت هناك عدة محاولات انقلابية، كان أشهرها هو البيان الإلكتروني الذي صدر بتاريخ 27 نيسان (أبريل) 2007م باسم الضباط الشباب، وأعلن عبر الموقع الرسمي لرئاسة الأركان، وهدد بتدخل الجيش إذا لم تتوقف الحكومة عن ممارساتها التي تحاول التأثير على علمانية الدولة، ولكنها أفشلت بحراك كبير وسريع في الشارع، وكذلك الموقف الحاسم من الحكومة والحزب الحاكم.
وهناك عدد آخر من المحاولات التي قيل إنها كانت عبارة عن مخططات للانقلاب، ولكنها أفشلت عبر حملة الاعتقالات التي نفذت في الأعوام التي تلت البيان الإلكتروني، ولكن المشكلة أنه تبين لاحقًا أن هذه الاعتقالات كان لتنظيم الدولة الموازية الذي أسسه فتح الله جولن المطلوب الأول لتركيا في أمريكا تدخل بها، ما خلط في القضايا الحقيقة بالتدليس، وأفشل محاكمات قيادات الجيش، وأسقط الدعاوى وأدخل الشك في الادعاءات المذكورة.
كانت آخر المحاولات الانقلابية بتاريخ 15 تموز 2016م التي تابعها العالم عبر شاشات التلفزة في بث مباشر؛ فقد كانت على دمويتها بسبب التكاتف بين الحكومة والشارع التركي من ناحية، وعدم توحد قيادة أركان الجيش خلف الكتلة الانقلابية، كما كان يحدث في كل الانقلابات السابقة؛ من أقصر المحاولات الانقلابية وأفشلها، إذ لم تنتهِ فقط بفشل المحاولة الانقلابية، بل انهيار منظومة الدولة الموازية في كل مفاصل الدولة بشقيها المدني والأمني، وهو التنظيم المعقد التركيب الذي كان منتشرًا في كل مفاصل الدولة حيث بدأ تشكيله منذ سبعينيات القرن الماضي.
فهل كان هذا الفشل هو آخر عهد تركيا بالانقلابات العسكرية أو شبه العسكرية؟، الإجابة عن هذا السؤال في المقال القادم، إن شاء الله.