تزداد الأحاديث من شخصيات عربية محاولة إبراز الشعب العربي الفلسطيني بموقف الرافض لكل المبادرات. لكن هذه الأطروحات تبسيط ومحاولة لتبرير السير مع سياسات الرئيس ترامب ـ كوشنر حول صفقة القرن، وهي طريقة لتبرير بعض السياسات العربية التي تتقارب مع الصهيونية وتتبنى بعض مروياتها. لكن التاريخ يقدم لنا صورا متناقضة مع هذه الادعاءات المنسجمة مع الدعاية الصهيونية.
فبينما كان الشعب الفلسطيني عام 1936 يقوم بثورة ضخمة ضد الوجود البريطاني مطالبا بالاستقلال الوطني وبوقف الهجرة اليهودية، وبمنع بريطانيا من إعطاء الصهيونية أراضي جديدة لبناء المستعمرات للمهاجرين الجدد، في هذه الأجواء شكلت بريطانيا لجنة مهمتها التحقيق في اسباب الاضطرابات الأساسية التي نشبت في فلسطين منذ اواسط شهر نيسان/أبريل 1936.
وقد التقى مع لجنة بيل عدد من قادة الفلسطينيين اضافة للحاج أمين الحسيني، عزت دروزة، جمال الحسين، عوني عبد الهادي، اضافة لجورج انطونيوس الشخصية الثقافية اللبنانية التي شاركت في كل الوفود الاساسية في شرح القضية الفلسطينية.
وفي السابع من تموز/يوليو 1947 خرج تقرير لجنة بيل الى النور. أكد التقرير أن العداء المشترك بين العرب اليهود لا يمكن حله الا من خلال تقسيم فلسطين لدولة عربية واخرى يهودية، لكن بشرط ان تبقى دولة الانتداب البريطاني في فلسطين في مناطق محددة مثل القدس وبيت لحم إضافة لمنفذ بحري واضح للمناطق التي بحوزة البريطانيين.
في هذا التقسيم قدمت بريطانيا نظريا 20٪ من فلسطين للدولة اليهودية. ورغم ان حجم المنطقة العربية كان كبيرا، فإنها كانت المنطقة الأضعف اقتصاديا، أما الـ 20٪ التي اعطيت للصهيونية فكانت من أكثر المناطق خصوبة في فلسطين. واشترطت اللجنة ان تكون المنطقة العربية خاضعة للملك عبد الله ملك الأردن وليس للفلسطينيين بينما الدولة اليهودية تحت قيادة الحركة الصهيونية.
في ذلك المشروع شملت المنطقة الخاصة بالدولة اليهودية عشرات القرى والأراضي الزراعية الخصبة العربية. وكان يقطن في تلك المنطقة المسماة يهودية 225 ألف عربي مقابل 257 ألف يهودي، إن نصف سكان المنطقة التي سماها التقرير صالحة لأن تكون دولة عربية كان من العرب اما النصف الثاني فمن اليهود المهاجرين وصل معظمهم بطرق التهريب قبل عامين الى أربعة اعوام من إعلان التقرير.
أما عن اراضي الدولة العربية المقترحة فلم يكن يسكن فيها سوى بضعة ألوف من اليهود (14 الفا). لجنة بيل طرحت انتقال السكان اي تحقيق الترانسفير، بحيث ينتقل اليهود في الدولة العربية الفلسطينية وعددهم بضعة الوف، ولا يملكون شيئا فيها إلى اراضي الدولة اليهودية، بينما ينتقل الربع مليون عربي ويجردون من قراهم وأملاكهم وقراهم ومزارعهم ومدنهم نحو الدولة العربية. وقد شمل تقرير اللجنة اعتبار مدن عربية كحيفا وصفد وعكا وطبريا ضمن الدولة اليهودية، وهذا يعني طرح طرد سكان وأهالي تلك المدن. فهل هذا أمر عادل يمكن قبوله؟
كل المشاريع ستكون بالأساس منحازة لفكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين ومنحازة لنزع حقوق وأراضي وأملاك الشعب الفلسطيني. لو كان هذا وطنك وأرضك ولو كنت عربيا بكل ما للكلمة من معنى هل كنت ستقبل بهذا الحل؟
لم تكن ملكية اليهود حتى ذلك الوقت أكثر من 5٪ من الارض الفلسطينية، كما ان ملكيتهم لن تصل لأكثر من 6 ٪ يوم قيام الدولة في عام 1948، وهذا يشمل الاراضي التي قدمتها بريطانيا من الأرض المشاع والاراضي الحكومية للصهيونية. وكان اليهود في فلسطين قد وصلوا من حيث الأعداد 27٪ من السكان. لهذا على اي اساس سيتم اقتطاع 20٪ من فلسطين لمن لا يملك سوى 5٪؟ هذه المعادلة المشوهة لم يكن بالإمكان القبول بها من قبل الأغلبية الفلسطينية.
ووفق الأكاديمي الإسرائيلي آفي شلايم في كتابه الجدار الحديدي: بالرغم من قبول بن غوريون لهذا التقسيم، الا انه لم ينظر لتلك الحدود التي طرحتها لجنة بيل كحدود نهائية. اذ لم يجد أي تناقض بين قبول الدولة اليهودية في جزء من فلسطين والأمل بتوسعة تلك الحدود لكل الارض. وتوضح رسالة بن غوريون 1937 لابنه المنشورة في كتاب إيان لوستيك المؤرخ الإسرائيلي عن حياة بن غوريون: «الدولة ستكون نقطة البداية وليس النهاية. الدولة ستعطي اليهود القدرة اللامتناهية على هجرة غير محدودة، وستسمح لنا ببناء اقتصاد يهودي، وتنظيم جيش متميز» ثم يكمل بن غوريون لابنه: «انا متأكد أننا سنستطيع الاستيطان في كل اجزاء فلسطين. اما بالاتفاق مع جيراننا العرب او بطرق اخرى».
وعندما انعقد المؤتمر الصهيوني في 1937 خاصة بعد تقرير لجنة بيل بحوالي الشهرين رفض المؤتمر جميع توصيات اللجنة، ما عدا الجزء الخاص بإقامة دولة لليهود في فلسطين. بل أعلن بن غوريون امام هذا اللقاء: «لا يوجد أدنى سؤال… لن نتنازل عن اي قطعة ارض من ارض اسرائيل».
ولم يكن الرفض الفلسطيني رعونة وضربا بالحائط لمقترح جيد، بل كان رفضا طبيعيا لمقترح يسعى لخداعهم وتشريع سرقة اراضيهم ومدنهم وحقوقهم. هذا لا يعني انه لم يوجد صوت فلسطيني قبل قرارات لجنة بيل، خاصة راغب النشاشيبي رئيس بلدية القدس السابق، والذي سعى لمنافسة الحاج أمين الحسيني على الزعامة.
لكن وبسبب بنود الخطة السرية والغموض الذي سيطر على اجوائها عاد راغب النشاشيبي وعدد من اقطاب هذه العائلة المقدسية وتراجع عن الموقف. تم ذلك بعد ان وجدوا ان الحركة الصهيونية لم تكن قابلة أساسا بالمشروع الا في الجزء المتعلق بالدولة واليهودية، وأنها سربت بطرق كثيرة إنها سوف تطرد العرب من مناطقها.
للأسباب اعلاه رفض الشعب الفلسطيني خطة التقسيم الأولى، كما سيجد نفسه في ذات الاشكال مع خطة التقسيم الثانية للعام 1947. كل المشاريع ستكون بالأساس منحازة لفكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين ومنحازة لنزع حقوق وأراضي وأملاك الشعب الفلسطيني. لو كان هذا وطنك وأرضك ولو كنت عربيا بكل ما للكلمة من معنى هل كنت ستقبل بهذا الحل؟