فلسطين أون لاين

المنطقة العربية وتركيا القوة الإقليمية

من أشهر وأبسط تعريفات القوة الإقليمية حسب علماء السياسة الدولية، أنها الدولة التي تمتلك تأثيراً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً على منطقة جغرافية معينة ومن هذا المنطلق ينقسم المهتمون والخبراء في الشأن التركي سواء ممن هم مع تركيا أو ضدها أو حتى من هم على الحياد إلى قسمين: أما القسم الأول فيعتبر أن تركيا أصبحت قوة إقليمية ولديها تأثير مباشر على العديد من القضايا السياسية والأمنية والعسكرية في المنطقة وتسعى لزيادة هذا التأثير والهيمنة، والقسم الآخر يقلل من شأن قدرة تركيا على التأثير ويعتبر أن تركيا ما زالت قوة محلية ولم تصبح قوة إقليمية، لكن -حتى هؤلاء- يؤمنون أنها في مسعى ولديها القدرة لتصبح قوة إقليمية ومؤثرة، لكنها تواجه صعابًا في الوصول لذلك بسبب قدراتها الاقتصادية المحدودة وارتباطها بسقف القوى العالمية في كثير من القضايا.

وقد أكون أنا أكثر ميلًا للفريق الأول حسب التعريف المذكور خاصة إذا تابعنا قدرة تركيا في الآونة الأخيرة على التأثير في الكثير من الملفات الحساسة والمهمة في المنطقة مثل الملف السوري والليبي والصومالي وأخيراً الأذربيجاني، ففي الملف السوري والذي تدخلت فيه تقريبا كل القوى الدولية والإقليمية تمكنت تركيا باستخدام قدراتها السياسية والعسكرية ودعم مجموعات محسوبة عليها على الأرض من تجيير القضايا لما يخدم مصالحها ويلبي مطالبها بشكل كبير وإن لم يكن بشكل كامل وهذه طبيعة السياسة ليس فيها قدرة على الحصول على كل ما ترغب إن رغبت بحل دون حرب مع جميع الأطراف.

وقد استطاعت تركيا بشكل أو بآخر الوصول لتوافق مع كل القوى المتناقضة في الساحة وعلى رأسها أمريكا وروسيا وحلفاؤهم في الساحة السورية.

أما في القضية الليبية فقد استطاعت تركيا بدعم لوجستي وفني أن تقلب موازين المواجهة هناك لصالح الفريق الذي دعمته بعد أن كانت طرابلس على وشك السقوط بيد حفتر وميليشياته التي دعمتها العديد من القوى العالمية كروسيا والدول العربية والأوروبية كفرنسا والإمارات وغيرهم واليوم يتكلم الجميع عن حكومة السراج على أنها حكومة معترف بها وتطالبها بالحوار مع الفريق الآخر للوصول لحل وسط، وقد استطاعت تركيا أن تصبح لاعبا دوليا مهمًا في الملف ولا يمكن تمرير أي حل لليبيا دون موافقتها أو دعمها له.

ولا أعتقد أن قدرتها على تغيير الواقع في الصومال أيضا ببعيد عن كونها قوة إقليمية استخدمت دعمها الاقتصادي والفني لحكومة الصومال المنتخبة حتى أصبح كل المتنافسين السياسيين هناك يعتبرون العلاقة الجيدة مع تركيا من المسلمات السياسية للمحافظة على الصومال قويا وقادرا على مواجهة أزماته حتى أن الكثير من القيادات المحورية في الدولة هم من أكثر الشخصيات قرباً وعلاقة بتركيا ومنهم مثلاً رئيس الأركان الصومالي الشاب الذي تخرج من الجامعات التركية وكبار الضباط الذين يتخرجون باستمرار من الدورات والمعاهد العسكرية التي تدعمها فنياً وتشرف عليها تركيا وغيرهم من القيادات السياسية والمجتمعية.

أما الملف الأذربيجاني فحدث ولا حرج فبينما اليوم تركيا تقدم الدعم اللوجستي للجيش الأذري بالمعدات البرية والطائرات الحربية بدون طيار بعد تجديد اتفاقية الشراكة الاستراتيجية والدعم المشترك بين البلدين التي وقعتها في العام الماضي لعشرة أعوام أخرى فقبل أشهر من الآن لم تستطع تركيا عام 1992 إرسال مروحيات لإجلاء الجرحى من المدنيين والعسكريين الأذريين رغم استنجاد رئيس أذربيحان في حينه.

ولم تقتصر محاولات تركيا على التأثير في قضايا المنطقة على هذه الدول بل كانت شريكا داعما للعديد من القوى الصاعدة في أقطار الربيع العربي وخاصة التيارات المحافظة التي رأت وترى في تركيا بلدا شريكا في المنطقة ويمكن التعويل عليه في دعم استقرار بلدانها ويمكن الاستفادة من خبراتها الفنية وتجاربها الإدارية وعلاقاتها الدولية، ولكن هذه المحاولات تراجعت لصالح المشروع الأمريكي الذي حرك قوى الثورات المضادة لتقضي على سيطرة هذه الدول وعلى أي دور لتركيا في صناعة مستقبل مشترك معها.

هذه الأحداث وغيرها تؤكد أن تركيا أصبحت فعلاً قوة مؤثرة ليس على صعيد الشرق الأوسط فقط بل في أفريقيا ووسط آسيا والبلقان أيضا.

المشاريع المتنافسة في المنطقة:

رغم كونه مشروعًا طور التشكل وواعدًا فبجانب المشروع التركي يؤثر في المنطقة العربية والإسلامية عدد من المشاريع العالمية والإقليمية على رأسها مشاريع القوتين العالميتين الأمريكية والروسية والمشروع الصيني الذي يسعى ليصبح قوة عالمية من بوابة الاقتصاد ولا يخفى على أحد تأثير المشروع الإيراني المذهبي والسياسي والمشروع الفرنسي والذي استعاد نشاطه في الآونة الأخيرة ولا يبدو أنه جاء بمحض إرادته بقدر ما دفعه الحراك التركي في بعض الملفات التي كان يعتبرها ملفاته الخاصة كليبيا وأفريقيا وأخيراً لبنان وفي وجود هذه المشاريع كلها لا يوجد أي ذكر لمشروع عربي مشترك أو حتى قطري للتأثير في المنطقة سوى بعض المهام التي ينفذها نظام الإمارات العربية المتحدة لصالح المشروع الأمريكي والصهيوني في المنطقة لمواجهة المشروع التركي من ناحية والقوى المحلية والقطرية الصاعدة في بلدانها خاصة بلاد الربيع العربي.

سمات المشروع التركي:

بينما تتصف كل المشاريع الأخرى بأنها تبنى على هدم مقدرات الدول التي تسعى للتأثير فيها أو السيطرة المطلقة عليها وعلى أنظمة الحكم فيها بغض النظر عن رغبات الشعوب في تلك البلدان بل وتدعم القوى الدكتاتورية فيها للسيطرة بالقوة القمعية على البلاد فإن المشروع التركي لا يشبهها في كثير من سماته فهو يتميز بما يلي:

أولاً: يبدأ دائما بالدبلوماسية الناعمة ودبلوماسية العمل الإنساني عبر منظمات العمل الخيري المستقلة أو مؤسسة التنمية الحكومية (التيكا) ومنظمات العون شبه الحكومية كالهلال الأحمر أو رئاسة إدارة الكوارث الطبيعية والطوارئ (آفاد) ويقدم الخدمات الإنسانية للمجتمعات المحلية عبر البوابات الرسمية والقانونية ليحدث نقلة في الحالة الإنسانية في تلك البلاد فقد كانت تركيا مثلاً من السباقين في دعم الشعب الصومالي أثناء المجاعة والجفاف عام 2011 و مسلمي بورما (الروهنجا) عام 2017.

ثانياُ: تعتمد في العلاقة على الشعوب أو الحكومات المرتكزة على شرعية شعبية كما حدث في الصومال وتونس بعد الثورة وحكومة الوفاق في ليبيا ودعمها لكل الحكومات التي انبثقت عن ثورات الربيع العربي أو وقوفها مع الشعوب في مواجهة الأنظمة القمعية كما حدث في دول الربيع العربي وحتى الآن عبر احتضانها العديد من القيادات السياسية الشعبية المحسوبة على المعارضة لحكومات الثورة المضادة.

ثالثا: أنها ترتكز على سياسة الربح المتبادل أو المنفعة المتبادلة فلم تسع كما المشاريع المنافسة لها في المنطقة لأخذ مصالحها في الحسبان دون مراعاة مصالح الدول التي تعمل معها وهذا واضح وجلي في دعمها لبناء الإنسان والدولة في الصومال وليبيا وحتى في احتضان اللاجئين السوريين الذين شكلوا عبئا اقتصادياً وسياسياً كبيراً على أردوغان وحكوماته المتعاقبة ولكنه أيضا من خلال ذلك استطاع أن يكسب تأييد تيار واسع وعريض من السوريين المعارضين للنظام ولنسبة كبيرة من شعوب المنطقة.

أخيراً: يرتكز المشروع التركي على الإرث التاريخي والثقافي والديني وحتى المذهبي المشترك لتركيا مع شعوب المنطقة مما يجعل من أي مشروع تركي مشروع يمكن أن يعتبره أي مجتمع أو دولة في المنطقة مشروعه الخاص يستفاد منه دون الخوف من الاستحواذ الطائفي أو الديني أو الثقافي لتركيا على البلاد والمجتمع.

ومن هذا المنطلق فإن المشروع التركي الناشئ هو مشروع صديق للمنطقة العربية والإسلامية نابع من موروث محلي مشترك لشعوب وبلاد المنطقة، وفي قوته قوة للمنطقة شعوباً وأقطارًا، وفي تراجعه وإضعافه إضعاف للأمة لصالح المشاريع الاستعمارية العالمية والإقليمية وما لم ينتج مشروع عربي أصيل يعبر عن مصالح ورغبات الأمة العربية ويحافظ على مقدراتها فلابد للشعوب والأنظمة الحريصة على مصالح شعوبها إلا التعاون مع تركيا في تقوية بنية المنطقة في مواجهة أعاصير المشاريع العالمية التي لن ترحم الجميع وحينها سنقول: أكلنا يوم أكلت تركيا، أما إن نجحت تركيا في التعامل الذكي مع المتغيرات وحماية مصالحها فسوف نؤكل وحدنا وتبقى تركيا القوية.