"هلا" لم تتعافَ من جراح وفاة والدها لتشيع خطيبها
فردت ذراعيها تحتضن حزنها، وتلملم جراح قلبها المتناثرة على قارعة الألم؛ لم تستعد للموت، والفراق، والوجع، ورحيل اثنين من أبنائها في وقت واحد، لم تستوعب أن يستهدفهما الأشقاء.
أبناؤها الشباب الصيادون الثلاثة خرجوا للبحث عن "لقمة العيش" يبحثون في ظلمات البحر عن الأسماك، أدواتهم "الصنارة والخيط" وشباك الصيد، لكن هذه المرة لم يعد اثنان منهم، فاستشهد "حسن" و"محمود" برصاص البحرية المصرية؛ و"اعتُقل الثالث"، هذا النبأ الذي وصلها من نقابة الصيادين فجع الأم.
الحدث جرى الخميس الماضي، لكن الخبر اليقين من النقابة "استشهاد أخوين واعتقال الثالث"، وصل العائلة ظهر السبت، قرابة يوم ونصف ظلت العائلة تحت رحمة الأخبار المتضاربة.
السادسة مساءً، في يوم إبحارهم الأخير، تسحب الشمس أشعتها رويدًا رويدًا، وتتوشح السماء باللون الوردي، انطلق الإخوة الثلاثة في رحلتهم البحرية، قاصدين "باب الرزق"، ودارت عجلة الوقت إلى الخامسة والنصف فجرًا، وهو موعد عودتهم للمنزل.
سمعت الأم صوت خطوات ابنها نضال، وهو يوميًّا يذهب لإحضار إخوته من مرفأ الصيادين "بدير البلح" وسط قطاع غزة؛ اطمأنت وغفت في نومها، لكن شيئًا ما أيقظها بعد دقائق، دون أن تدري استيقظت تسأل زوجة ابنها: "جاب نضال إخوته؟"، لترد الكنة: "أحمد ونضال فوق"، صعدت الأم فلا يحدث هذا اللقاء الأخوي باكرًا، وفتحت الباب لتجد الدموع تغرق ابنيها، اجتاح قلبها كل شيء مخيف: "وين إخوتك؟!"، كان على أحمد أن يصارح أمه بأصعب شيء ممكن أن ينزل على قلب أي أم، بصعوبة استجمع قواه ونطق أمامها: "إخوتي اثنين مستشهدين والثالث متصاوب أو معتقل .. حدش عارف الخبر اليقين"، وقفت صامتة، شاردة، لا تصدق ما سمعت حتى أغمي عليها من هول الصدمة.
في بيت العزاء؛ تستقبل "هلا" الزعزوع خطيبة وابنة عم الشهيد حسن، المعزين بدموع الحسرة، والصدمة، ووجع، وكأنها في كابوس، فوالدها حسن توفي بسكتة قلبية قبل 45 يومًا، في إثرها أجلت فرحة زفافها عامًا كاملًا، تحاول ترميم جراحها، والنهوض من بين زقاق الألم، ونفض حزن قلبها، لم تلبث كثيرًا حتى لحقتها صدمة ثقيلة أخرى، بفراق خطيبها "حسن"، فقدت "الحسنين" الأب والخطيب، وبقيت هي تتجرع مرارة الرحيل، وقسوة الغياب، رحلا وتركا لها الذكريات "الجميلة"، تركوها غارقة في الحزن، تواسي نفسها بين الدموع، وأي دموع أصعب من وجع الفراق؟!
بحثًا عن حياة كريمة
وأنت تستمع إلى صوت والدة الشهداء وهي تجهش بالبكاء، عليك أن تضع قلبك جانبًا لأن صوت الألم هنا أصعب من أن تصفه الكلمات: "خرجوا من البيت، ما إن جهزوا شباك وخيوط الصيد، ووضعوها في سلة، حتى أخذوا هواتفهم، وخرجوا يسعون إلى لقمة العيش لستر أنفسهم وحتى نعيش بكرامة، مثل باقي الناس".
"يما!" ... "مش طالبين أكتر من الستر، طموح حسن يبني بيت بمساحة 60 متر، ويكمل فرحة عرسه ونفرح فيه، وأخوه محمود نخطب له" ..."هي طموحهم مش كبير لا بدهم قصور ولا عمارات".
ترد الأم المكلومة بـ"عفوية وألم" على ادعاءات تجاوز قارب أولادها الحدود البحرية، وقلبها يبكي مما فعله "إخوة الجوار": "هو في بين الإخوة حدود، حتى قابلوهم بوابل رصاص؟!".
"ماذا فعل أبنائي وهم ذاهبون للقمة العيش سلاحهم الخيط وصنارة الصيد؟!" تتساءل الأم، بكى صوتها، في صوتها تنهيدة تقطر بالحزن: "كنت خائفة عليهم من غدر البحر، لكن كان هناك من فتك بهم"، لكنها تؤكد في الوقت نفسه أن الفلسطينيين والمصريين سيظلون إخوة.
جميل الأشقاء
مسحت دموعها، وهي تربط بين مشهدين يحار الإنسان في التعليق عليهما: "السنة الماضية لما غرقت سفينة صيادين مصريين قبالة ميناء دير البلح، هب أولادي لإنقاذهم، ونقلوهم إلى المشفى مع باقي الصيادين ... نزلوا بدراعاتهم يطلعوهم من تحت الموج، وضلهم عيانين أسبوع بالفراش "رشح وأنفلونزا"، وهيك يا مصر؟! ليش؟! إيش عملوا وهم مش حاملين غير الصنارة والخيط؟!" تقول والدة الشهيدين بحسرة.
من وسط الألم، تنبش بتفاصيل ما صنعه أبناؤها: "يوم إنقاذ المركب، عادوا أولادي يجرون التعب خلفهم، ارتموا على فراشهم، يحدثونني: (اسكتي يمّا؛ يا حرام في صيادين مصريين غرقوا وساعدنا في حملهم على المستشفى)"، متسائلة هل استهداف أبنائها بالرصاص هو "رد الجميل لهم"؟!
"حسبي الله ونعم الوكيل" بها اكتفت بالتعليق على ما حدث لأبنائها الذين أعيد اثنان منهم بالكفن.
"يمّا ادعيلنا" لا يغادر الإخوة منزلهم، قبل نيل دعوات أمهم، يذهبون ساعات طويلة، بين ظلمات البحر؛ يصيدون الأسماك، ويوفرون دخلًا لإعالة عائلة كاملة، وكذلك سداد ديون ثمن القارب، "إذا ربنا أكرمنا راح نرجع بصيد وفير" هذا ما تمنوه آخر مرة، "لكن لا جابوا الدفعة ولا اللي بعدها" تتحسر والدتهم.
"أولادي هيك ذنبهم، إنهم راحوا يكسبوا لقمة عيشهم، استكتروا علينا لقمة عيش بالحلال، مش طالبين إلا يسترونا ويصرفوا على أبوهم ويسددوا تمن مزارع الجاج والقارب".
منيت العائلة في 2014م بخسارة كبيرة بعدما دمر الاحتلال الإسرائيلي مشروعهم بمزرعة دجاج، وحطم حلم والدهم، ترثي حالها بدموع الفراق وصوت مخنوق بالوجع.
حلم انطفأ
قبل سبعة أشهر، عقد حسن قرانه على ابنة عمه "هلا"، وهو من مصابي مسيرات العودة وكسر الحصار السلمية، أطلق عليه الاحتلال رصاصة في صدره ومكث في العناية المركزة خمسة أيام، وخرج من الموت، وواصل طريق بحثه عن الحياة، ولقمة "العيش"، وحينما ضاق عليه البحر، نزل البحر مع إخوته قبل أسبوعين بشكل متواصل، يسابق الزمن ليتم فرحته على ابنة عمه، ويبني شقة بمساحة 60 مترًا مربعًا، ويجهز تكاليف الزفاف، لكنه حرم هذا الحلم.
عبر الجانب الآخر من الخط الهاتفي، الصوت القادم مليء بالحزن مسكون بالألم، كان صوت خطيبة الشهيد حسن: "آخر مرة حدثني فيها قبل استشهاده بيوم، كان يحلم أن يستر نفسه ويبني بيتًا جديدًا، كان قلبه على إخوته، حلم أن يكوّن مستقبله، كان قلبه علي ... حسن شخص جميل وملاك بريء، لا تجد مثله كثيرًا، ذهب للبحر وهو متأمل أن يعود فهناك حلم ينتظره، وفرحة تأجلت بسبب وفاة أبي".
"موعد الزفاف أُجّل مدة سنة بعد وفاة أبي قبل 45 يومًا" سكت صوتها، ماسحة دموعًا غلبتها هنا: "الحمد لله ربنا يصبرني على فراقهم، ولي الفخر أني خطيبة وابنة عم الشهيد حسن".
عند الفجر أفاقت هلا قبل الشمس، تنتظر اتصالًا هاتفيًّا من حسن، جرت العادة أن يعطيها رسالة الاطمئنان: "هيني روحت بدك شي، اطلعي أشوفك بدي أحكي معك"، لكن هذه المرة لم يأت الاتصال، بل جاء خبر نزل مثل صاعقة هزت قلبها، وعمقت جراحها، ليغرس الحزن مخالبه فيها، أن حسن شهيد.
لا تكاد تقوى على الحديث: "الساعة الخامسة مساء كل يوم يتصل بي ويحدثني قبل إغلاق هاتفه بالبحر".
لكن في اليوم الأخير، اتصلت هلا به، سبقته في الكلام إلا أنها لم تسمع منه إلا كلمتين: "مستعجل، مستعجل"، "فهل كان استعجال العمل أم استعجال الروح؟"، أدركت أنها كانت علامة على الرحيل لم يفهمها الاثنان، واكتفت بالدعاء له: "الله يسهل عليك وينور طريقك"، لكن قلبها -وكأنه حدس داخلي- جعلها تشعر أن هناك شيئًا ما: "كنت خايفة عليه، حاسة أنه راح يصير إشي عشان هيك اتصلت بس ما رضيتش أبين له".
"كان واعدني يعيشني عيشة كريمة، نفسه أكون سعيدة، يعوضني عن والدي، فلديه طيبة قلب وحنية كبيرة" رحل حسن وترك هلا تبكي على الأطلال الذكريات التي جمعتهما معًا، "تحطمت أحلامي، وحرمت فرحة وسعادة، وقتل خطيبي بدم بارد، بعدما اخترقت جسده الرصاصات وهو يحمي (بصدره العاري) محمود وياسر، لكن جسده لم يستطع حماية جسد محمود بعدما اخترقته رصاصتان واحدة بالكتف والثانية بالفخذ واستشهد في إثرها" والقول لهلا.