لو أردنا أن نزرع شجرة مثمرة ودائمة الخضرة في ساحة المسجد الأقصى فإننا سنختار الزيتون لأسباب كثيرة: زيتها الذي يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار لأنها على ربوة عالية لا شرقية ولا غربية وثمرها الذي يزيّن الموائد وفيها أيضا صبغ للآكلين، ومن الناحية الجمالية فهي شجرة تتزيّن بثيابها الخضراء ولا تتخلّى عنها فتصبح جرداء لا في خريف ولا في شتاء، وعند لهيب الصيف ترخي ظلالها بسخاء لكل من يلوذ إلى حماها من المصلّين الأحرار.
سنتحدّث اليوم عن زيتونة ربت في ساحة المسجد الأقصى، أينعت وأثمرت وامتدّت أغصانها بعيدا بعيدا، أنعشت الأرواح وأتحفت القلوب وأنارت الدروب والهضاب، حسبنا لو تناولنا غصنا واحدا من أغصانها لنجده معلما من معالم الخير والهدى بالفعل أولا وبحال وسمت العلماء الصالحين ثانيا وبمقولة الحكمة وزراعة القيم الإنسانية العالية ثالثا، أغصانها كلها كذلك إلا أن حديثنا عن أكثرها تميّزا أضاء بنوره الأفق كالشمس إذا أشرقت ذهبت بضياء النجوم مهما علت وتعاظمت.
هذا الغصن الجميل بقلبه العالي بهمته القوي بإرادته لم تقنعه انتفاضة الحجارة بكل حجارها التي لم تعد على مقاس قلبه الكبير، من ذات المكان انطلق، وعظ الناس ليلة القدر وعظا بليغا في ساحة المسجد الأقصى ليلا، ثم سرى فجرا إلى موعظة الفعل ليكون الوعظ أبلغ وأعظم، أحيى الليل بقيام يحيي القلوب ويشعل الهمم ويخرج إرادة الرجال، لم يكن قيامه قيام الخاشع الهارب من سطوة واقع الاحتلال المرّ اللئيم بل كان خشوع المحبّ العاشق المستجيب لحياة يرتضيها المولى، تكيد العدا وتسرّ الصديق، هناك وحده كان أمّة تشتبك مع المحتلّ نيابة عن أمّة المليار ونصف، الكل ذهب لينام بعد قيام ليلة تمنح مقيمها ألف شهر سوى نضال زلوم الذي أراد أن يزيد فيكون شهيدا قد ترجم القيام بتضحية العظام، يشهد بذلك على ظلم قد تمدّد كثيرا وطال وعلى أمّة قد طال سباتها ورضيت بعيش الأيتام على موائد اللئام، خاض المعركة وحده ونقل الانتفاضة إلى مرحلة جديدة.
ثم إن الله لم يكتب له الشهادة السريعة وأراد له أن يكون كل يوم شهيدًا في سجون يحتاج فيها الناس إلى هذا القلب الكبير وليكون زيتونة مغروسة في أعماق كل معتقل يحتاج إلى خالص الضياء من معين تلك الزيتونة المقدسية التي مدّت فرعها إلى هذه الزوايا المعتمة فكان مصدرا للنور والهداية يبدّد عتمة الزنازين وظلام الاحتلال.
الحاجة فدوى زلوم هذه الزيتونة الفلسطينية التي تجذّرت وانبعثت من تربة الأقصى المباركة وارتوت من مياهه العذبة، لم تغادر المكان الذي سكنها كما سكنته، صحيح أن السكن كان في مشارف القدس، في مدينة البيرة إلا أن الجذور هناك ومداد الروح بقيت موصولة حيث النشأة الأولى، وكان لها الزواج من العالم الأزهري الذي سخّر حياته كلها في زراعة الزيتون المبارك، هذا الزيتون الذي يعلي قيم الدين والوطن ويبني إنسان فلسطين القوي الفدائي المجاهد الذي يشكل جيل النصر والتحرير القادم.
الحاجة زيتونة الأقصى المباركة أنجبت بنين وبنات كل منهم ينتج النور والضياء، منهم رائد متقدّم في العطاء وأيمن نجيب مشرق دون انقطاع وضياء حمل الاسم والمعنى بكلّ امتياز وأبيّ أبى إلا عزّة البلاد والعباد ومثلهم من "الزيتونات" الماجدات، وكان لهم المزروع في الخندق المتقدم المشتبك الدائم الأقرب، مناضل يناضل بقوّة وسخاء، يزرع الزيتون ويرفع راية الجهاد في مصانع الرجال.
لم تهن ولم تحزن ولم تتراجع قيد أنملة أمام حجم التضحيات وتحت مطارق التحديات وطول الألم والابتلاءات، يذهب المرء لها مواسيا ومؤازرا فيعود بقبس من نور وقوّة وهمّة رجال، يتسلّل للمرء احتمال سماع أنين أو شكوى أو دالّة أو عتاب من تقصير أو لوم على تأخير فرج خاصة بعد أن طال الأمر على مدار ما يزيد على ربع قرن ونضال يقارع المحتل في السجون، ولها من الأحفاد أيضا نصيب، فلا تجد إلا الرضا التام وتلقي المهالك بوجه ضاحك، قد زرع في أعماقها وتشرّب في جذورها أن كل شيء في سبيل الله ورفعة الأقصى وتحرير فلسطين يهون ودونه كل التضحيات. تمنحك من النور والأمل بقلب وجل وكأن هذه الآية الكريمة هي التي تحدّثك: "يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة" تعطي الكثير وتضحّي بالغالي والنفيس وتشعر بالتقصير وكأنها لم يفعل شيئا.
هذه هي الأمّ الفلسطينية المؤمنة بسيرتها الذهبية: عطاء وصبر ورضا عن حبّ وطيب خاطر وفناء عن كل حظ من حظوظ الدنيا الضيقة والزائلة، هي علاقة أزلية مع ربّ حميد عظيم عزيز لطيف كريم، تسمو بها الروح وتشفّ لتصل إلى أعلى ما في هذه الحياة من مستوى إنساني نبيل، تعمل المرأة من موقع الأم والأخت والزوجة وتعطي وتضحّي وتخلص وتتفانى بروحها وأولادها وكلّ ما تملك من دنياها، الحاجة فدوى زلوم من صاحبات السير الذهبية التي رست أقدامهن في الأرض كشجرة زيتون وكان لها من الثمر ما يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار.