قوات الاحتلال تتقدم باتجاه مدينة بيروت لمحاصرتها من عدة محاور؛ الأخبار متضاربة، المرابطون على تخوم بيروت لحماية "عروس الشرق الأوسط" وهم يتصدون لمحاولات دخول العاصمة اللبنانية، لكن قوات جيش الاحتلال حاصرت مخيمي "صبرا وشاتيلا" للاجئين الفلسطينيين من جميع الاتجاهات.
فصول المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال ومليشيات لبنانية على مدار ثلاثة أيام متتالية في 16 سبتمبر/أيلول 1982، راح ضحيتها نحو ثلاثة آلاف من اللبنانيين واللاجئين الفلسطينيين، لا تزال محفورة في الذاكرة الفلسطينية.
وصبرا هو اسم حي تابع إداريا لبلدية الغبيري في محافظة جبل لبنان، تحده مدينة بيروت من الشمال، والمدينة الرياضية من الغرب، ومدافن الشهداء من الشرق، ومخيم شاتيلا من الجنوب.
سكنت مخيم صبرا نسبة كبيرة من الفلسطينيين، لكنه لا يُعد مخيماً رسمياً للاجئين رغم ارتباط اسمه بشاتيلا الذي يعد مخيماً دائما للاجئين، إذ أسسته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (الأونروا) عام 1949، لإيواء المئات من الذين تدفقوا إليه من قرى شمال فلسطين بعد النكبة.
الخميس، السادسة إلا ربعا، الهدوء ألقى بظلاله على المخيم، انفجار هز أرجاء المنطقة، اعتقد الناس أن الصوت ناجم عن بدء شرارة الهجوم، فهرب من هرب، وعاشوا حالة ذعر.
شاب يافع خرج من مخيم "شاتيلا" يصرخ بهستيريا: ذبحوا أهلي.. ذبحوا أهلي، في ليل لم تضئ فيه إلا قنابل "الصهاينة"، ينادي الفدائيين الذين استطاعوا تأخير "جيش الاحتلال" و"أعوانهم" من التوغل أكثر باتجاه منطقة صبرا بعد الانتهاء من جريمة "مذبحة شاتيلا".
لم يصدقه وقتها الواقفون.. وظنوا أنه لصّ أو مجنون!
ومع خيوط الفجر الأولى بدأ "المسلحون من جيش الاحتلال والمليشيات اللبنانية المساندة له " ينادون سكان صبرا ومن حولها وهم على تخوم المخيم، طالبين منهم أن يأتوا جميعاً.. ومعهم هوياتهم.. والناس مرتابون منهم لا يستجيبون..
ثم جاء الخبر اليقين: ذبحوا الناس في شاتيلا وهم قادمون إلى صبرا وقد طوّقوا المنطقة.. فاهربوا..
"نظرة خاطفة"
ألقى اللاجئ الفلسطيني محمد سرور نظرة خاطفة من سطح منزله لمعاينة ما يجري، فوجد المشهد قد تغير، قوات تهاجم المخيم، صوت إطلاق نار، صراخ، وبكاء، ومسبات وشتائم، نزل إلى الاسفل يخبر والده بما رآه، وألح عليه: "خلينا نطلع من منطقة المخيم"، مرة ثانية صعد هو وشقيقه ليجد الأعداد في ازدياد، هنا حسم والده الأمر: "خلص اطلعوا انتم، انا راجل كبير شو بدهم فيَّ".
في الخارج، لا زالت القنابل المضيئة تتساقط على المخيم كي يتسنى لهم رؤية الناس وقتلهم، هرب محمد سرور تحت أزيز الرصاص الذي انهال عليه من قناصة الاحتلال مارا بمخيم "صبرا" حتى وصل "مستشفى غزة"، إذ كان المشفى ملاذا آمنا لكل الهاربين من حمم النار والمجازر.
في منزله كان المشهد مختلفا، فتح الكلام جرح قلبه وكأنه حدث بالأمس في صوته ألف حكاية من الوجع يرويها هنا لصحيفة "فلسطين": "بعد انتهاء المجزرة، مرت الدورية من حاراتنا وسمعت صوت طفل: "بعدكم طيبين!" .. يتوعد الجنود الطفل، حتى طرقوا باب منزلنا، فتحت أمي الباب ونادت إخوتي الصغار، طلبوا منها الاصطفاف على الحائط، ونادوا أبي".
لم يشفع له ما قاله والده لهم: "أنا زلمة كبير.."، رد عليه الجنود بتعجرف: "طيب روح جيب مصاري"، وما أن استلموا كل ما جمعه من البيت، طلبوا منه الاصطفاف مع زوجته وأطفاله، وقبل أن يصل الحائط باغتته رصاصة من الخلف سقط على الأرض على مسمع زوجته، التي لم تجرؤ على الالتفاف للخلف، وبدؤوا بفتح بنادقهم واطلاق رصاصهم نحوهم؛ فحدثت مجزرة أخرى في عائلة أبو سرور نجم عنها استشهاد والده وإخوته الأربعة، كلهم تم إعدامهم.
مشهد أبكى سرور بعد 38 عامًا من حدوثه: "بقيت أختي سعاد التي تعرضت لشلل نصفي، كان المشهد مرعبا، 40 ساعة، قتل، ذبح، تنكيل، جثث ملقاة بالشوارع، وكانت الأجواء بعد المجزرة مرعبة، ومن لم يقتل تم اعتقاله (...) حتى الآن كل يوم عالق مشهد قتل عائلتي بذهني، مشهد قتل جارنا وقطع رأسه وتعليقه على باب المنزل، جارتنا قتلوها وهي ترضع طفلها، ولا زلنا نعاني من المجزرة".
أين ذهب الرجال؟
"هَرج ومَرج عاشه الكبار بين الاستجابة لهم أو المخاطرة بالهرب من المنطقة ومن المفارقات أنهم كانوا يهددوننا بالسلاح من بعيد.. لا يقتربون خوفاً من وجود مسلحين يفاجئونهم من بعض الأحياء!.. كانوا كلما تقدم الناس اطمأنوا وتوغّلوا أكثر وأخرجوا المزيد من بيوتهم".. تعيد سهاد عكيلة التي كانت طفلة آنذاك رواية تفاصيل القصة، راحلة إلى تلك الايام المليئة بالألم.
"مشينا ومشينا في طريق طويل تحت شمس حارقة، وعلى الجانبين مسلحون يصوّبون بنادقهم باتجاهنا؛ حتى وصلنا السفارة الكويتية؛ وقفنا طويلاً بانتظار ما ستؤول إليه الأمور، ثم قاموا بفصل الرجال عن النساء، وهنا تعالت أصوات قلوبهن؛ لدرجة أخافت الجنود أو بالأحرى "البلطجية" فعجّلوا بالإجراءات".
صفّ الرجال في طابور طويل، ومن يُشار إليه إما أن يُلقى في حفرة كبيرة أعدّوها مسبقاً، أو يصعد إلى الشاحنة حيث مصيره المجهول، وهكذا، شباب في أعمار الورد، ذهبوا إلى غير رجعة.. ومن لم يستشهد بقي ليستكمل فصول "دراما" الموت التي عاشوها جميعاً بدرجات ونِسَب متفاوتة.
جاءت اللحظة الحاسمة: اقتادوا الرجال.. لم ندْرِ إلى أين.. وأُمرت النساء وأطفالهن بالعودة من حيث أتين..
موقف لا يُنسى: يوم طويل، حرّ شديد.. ازدحام خانق.. وقد بلغت القلوب الحناجر.. حالة ضياع عشناها.. لا أستطيع التعبير عنها بالكلمات.. بعدها صدر قرار الإعدام.. أو هكذا ظننا.. ذهب الرجال إلى غير رجعة: أبي، بعض أعمامي، أبناؤهم.. جيراننا.. لم يبق أحد.. أخذوهم ليكملوا ما بدؤوا منذ ثلاثة أيام!.
لا زالت تلك التفاصيل محفورة في ذاكرتها: بعد ذلك واجهَنا "البلطجية" ومعهم بعض الصهاينة.. عند أحد الحواجز عاملنا أحدهم بلؤم وغلظة (...) في رحلة العودة... كنا كالذي يُساق إلى الذبح.. ذبح من نوع آخر.. سرنا في الطريق نفسه.. وقد بدا من غير رجالنا أطول.. والموت يلفّ المكان.. رأيتُ الموت في نظرات أمي التائهة.. في عيون نسوة حيّنا.. حتى عدنا إلى حيّنا.. وكان المشهد مؤلماً .. كل امرأة ثكلى.. بزوجها.. ابنها.. أخيها.. مآقٍ تحجّرت.. ووجوه غاب لونها.. ترسم كل علامات الاستفهام: أين الرجال؟".
"ما أذكره أنني وأخي انتظرنا أبي رحمه الله عند مفرق حيّنا.. مع من ينتظر، وأمي وأختاي بقين في المنزل.. لم نكن متأكدين من عودته.. لكن الأمل وقف إلى جانبنا يترقب، سمعنا صوت انفجار دوى في الأرجاء، فجأة عادة أبي" .. لحظات لا تنساها عكيلة: "ركضنا وسط الطريق العام باتجاهه؛ رغم صغر سني لم أصدق أنه عاد مع العائدين.. هو هو.. أجل.. تعلقنا برقبته واحتضناه بشدة (...) عاد رجال حيّنا إلا جارنا الطيب، كان منظر زوجته لا ينسى أغمي عليها".
وبعدها اتضحت المؤامرة وبانت تفاصيلها، الأخبار تتوالى، جيش الاحتلال الإسرائيلي بالتعاون مع جيش لبنان الجنوبي والقوات اللبنانية (الجناح العسكري لحزب الكتائب) ارتكبوا المجزرة على مدى ثلاثة أيام.. العالم يتنبّه للمجزرة بعد انتهائها، بينما هناك آلاف الضحايا الأبرياء.