تطبيع الإمارات مع "إسرائيل" قديم؛ يؤرّخ بعضُهم بدايتَه بعام 2003، حين سُمِح لوفد إسرائيلي بحضور مؤتمر اقتصادي في الإمارات، ولكن الأخيرة لم تكن الأقدم تطبيعًا، ولا الأمتن تواصلًا مع "إسرائيل"؛ فهي كانت متأخرة عن دول أخرى، مثل قطر والبحرين وعُمان التي فتحت قنوات تواصل علنية مع "إسرائيل" منذ التسعينيّات، متعللة باتفاق أوسلو. ولكن هذه العلاقات تطورت، في غضون أقل من عشرين عامًا، من التطبيع إلى التحالف (منذ 2015 على التقريب)، ثم استبطان الصهيونيّة تدريجيًا منذ الإعلان عن "صفقة القرن" وصولًا إلى ذروته مع الإعلان عن "اتفاقية أبراهام". وتفرض علينا خطورة هذا التطور الأخير فهمه ووضعه في سياقه، حتى تنفتح آفاقٌ لمواجهة عقباته، عوض الاكتفاء بضرب الأكف تعجبًا من أحوال هذا الزمان وأهله.
ليست القيادة الإماراتيّة أول من نحا هذا المنحى في مقاربة "إسرائيل" عربيًا؛ فقد تصهينت نخب مارونيّة في لبنان مبكرًا (قبل إقامة دولة الاحتلال)، وتعاونت مع المنظمات الصهيونيّة، لا من منطلق "الضرورة" فحسب، بل ومن منطلقات حماسة أيديولوجيّة، وتقاطع في الأفكار العنصرية ضد العرب والعروبة كذلك. ومن صلب هذه النخب المتصهينة، ظهر لاحقًا اليمين الانعزالي في الحرب الأهلية اللبنانيّة الذي قاتل مع "إسرائيل"، وتبنّى خطابها العنصري. وتجب الإشارة كذلك إلى أمرٍ يُغفل أحيانًا، أن فريق "تطبيع الضرورة" (بقيادة مصر وريادتها) يتقاطع خطابه مع الخطاب الصهيوني نتيجة أزمات معينة، مثل الاختلاف مع طرف فلسطيني، أو التعرّض لضغط قومي كبير، بسبب موقفه من القضية الفلسطينية؛ حينها يقاوم النظام المطبع ذلك الضغط عبر الهجوم الأعمى على فلسطين والفلسطينيين؛ أمور من قبيل "بيع الفلسطينيين أرضهم" و"ارتزاق الفلسطينيين من قضيتهم" كانت، مثلًا، من المفردات الشائعة في حملات التحريض والكراهية التي قادتها الصحف المصرية الرسمية التي شنتها على الفلسطينيين، بُعيد اغتيال يوسف السباعي وزيارة أنور السادات القدس المحتلة عام 1977.
إذًا في مسألة التصهين العربي، ليست الإمارات رائدة في الأقدمية أو في المضمون، ولكنها تمتاز بكثافة (وهذا يحتاج نقاشًا مستقلًا) استبطان الصهيونية وشكله ودوافعه. هذا "التميّز" لافت، لا لأنه من دولة عربيّة، بل لأن إقامة أفضل العلاقات بين دولتين لا يستلزم هبوط إحداهما مع الأخرى إلى مستوى مدير حملة علاقات عامة، كما تفعل الإمارات مع "إسرائيل" حاليًا، خصوصًا أن الأخيرة "متفتحة" للغاية في هذا الجانب؛ مثلًا حكومة فكتور أوربان في المجر من أهم حلفاء "إسرائيل" في أوروبا، ولم يعكّر صفو هذه العلاقات المميزة أن أوربان يميني متطرّف، معروف بلا ساميّته وعنصريته.
ثمّة ثلاثة أمور تساعد في تفسير هذا السلوك الإماراتي: الأول، مشاطرة القيادة الإماراتيَّة الأيديولوجيا الصهيونيَّة في نظرتها إلى العرب والمسلمين، يرجِّح هذا الزعم سلوك الإمارات، في أكثر من مكان وملف، لا دخل لفلسطين بهما. مثلًا تتحالف الإمارات مع الهند مجابهة لباكستان التي تريد، بدعم صيني، منافسة الموانئ الإماراتية، ولكن الإمارات تتجاوز "تحالف الضرورة" إلى الإعجاب برئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، وتكريمه ومدحه رسميًا، على الرغم من أنه هندوسي متطرّف، على الطريقة الصهيونية في توحيد الدين بالقومية، وينتمي لمنظمة فاشيّة، ويكابد الهنود المسلمون في عهده اضطهادًا متواصلًا. الثاني، تعويض المبرّر؛ فالدولة العربيّة سابقًا برّرت تطبيعها بأمور كثيرة، مثل العجز أمام التفوق العسكري الإسرائيلي، التقرب من أميركا، إعاقة الحرب التنمية، وغيرها. لا يمكن للإمارات تقديم أحدها، وحين حاولت ذلك انقلبت تبريراتها مساخر. الحل الإماراتي لهذه المشكلة تحويل غياب المبرّر إلى عدم حاجة إليه، وهذا لا يكون باعتبار "إسرائيل" كيانًا طبيعيًا، بل تجاوز ذلك إلى تكريسها دولة محترمة، تستحق المحبة والتقدير، يجب التنافس لعقد أفضل العلاقات معها. الأمر الثالث استراتيجي. منذ انتكاسة الثورة العربيّة، ظهر مربّع إقليمي يتسابق على جثّة العالم العربي: إيران، تركيا، "إسرائيل"، الإمارات. على المستوى المالي، لدى الإمارات إمكانات ضخمة؛ فيها مثلًا ثالث أضخم صندوق سيادي في العالم عام 2019. ولكنها ضعيفة على باقي المستويات الاستراتيجيّة الأخرى، مثل العمق الجغرافي والوزن السكاني وإنتاج التكنولوجيا واستيعابها وضخامة الجيوش والاقتصاد الإنتاجي. من هنا، تبرز حاجة عند الإمارات للتحالف مع أحد الأضلاع الثلاثة. وقد اختارت "إسرائيل"، لأسباب مختلفة. ولكن التحالف وحده غير كافٍ، لأن الإمارات تدرك أن اعتلاءها خشبة مسرح الإقليم كان ناتج تزامنات فريدة تشكل جدائل من "الحظ السعيد"، منها تزامن ظهور دونالد ترامب في البيت الأبيض مع محمد بن سلمان في السعودية.
والحال هذه، يحاول ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، تثبيت الوضع القائم، عبر سياسات مثابرة، مثل دعم اليمين المتطرّف في الدول الديمقراطيّة، لأن مُركّب نزعته الانكفائية سياسيًا والعنصريّة ثقافيًا يحمّسه لدعم دولة "نموذجيّة"، مثل الإمارات، تجمع الثراء والبطش والحكم المشيخي ومعاداة الديمقراطية، مع ترحيب بالمتاحف والفنون، وتوفير أكثر أنماط العيش الغربي رفاهية وانطلاقًا، وتحقيق إنجازاتٍ في سد الفجوة بين الجنسين، وامتلاكها أبراجًا أضحت مهوى قلوب نجوم العالم وأثريائه.
ولكن أهم ما سيثبّت الموقع الإماراتي المتقدّم في خريطة الإقليم ليس دعم اليمين الأوروبي، وليس الاستثمار المسرف في الصورة البرّاقة، وليس التحالف مع "إسرائيل" بحد ذاته، بل أن تكون الإمارات "إسرائيل" إضافيّة في الاستراتيجيّة والوعي الأميركيين اللذين لا يؤثر فيهما تغيُّر الإدارات والرؤساء. "إسرائيل" في هذا السياق أكثر من حليف: هي أولًا مكانة يُطمح إليها.. مثل أعلى، ومن هذا التوق لمكانة "إسرائيل الثانية" تأتي تعبيرات حب السلطة الإماراتية "إسرائيل" بهذه المبالغة التي أخذت أشكالًا منحرفة سايكولوجيًا، ومنه أيضًا يأتي حقدها الصهيوني على الحواضر العربية، وفرحها النيروني بخرابها، كما نراه في اليمن وليبيا مثلًا.
على كل حال، يبقى المدّ الإماراتي العنيف في المنطقة العربيّة ظرفيًا، وليس ناتج قدرات كامنة تضمن ديمومة السياسات، وفي هذا أملٌ لمن يخوض معركتي النضال الفلسطيني وبناء الدولة في العالم العربي. أما من مشاركته النضالية هي الرهان المستريح على "فشل المخططات"، فعليه أن يتذكّر أن "المخططات" في البلاد العربية تفشل أحيانًا، ولكن بعد أن تسبب دمارًا هائلًا، ربما أشدّ من الدمار الذي كانت ستلحقه بنا، لو أنها نجحت.