فلسطين أون لاين

تخطت حدود جدران المنزل إلى الفضاء الأزرق

أعراس فرضها "كورونا" .. فرحة "صامتة" بتذكرة سفر "للماضي الجميل"

...
غزة - يحيى اليعقوبي

ترتدي ثوبًا تراثيًّا وجدته "أفضل الموجود لديها"، بلا طبول فرح، أو أصوات "فدعوس"، يحافظ أقرب المقربين إليها على مسافة تباعد وارتداء كمامة؛ وكأنها تخرج إلى مشوار عائلي، لكن العروس ريم العماوي خرجت بفرحة "عالسكت" من منزل والدها إلى عريسها يوسف شقفة، الذي لن تعرفه من بين عشرات الموجودين في الخارج، يرتدي مثلهم بنطالًا وقميصًا.

غابت هنا بدل الزفاف فلم يستطع العروسان توفيرها نتيجة إغلاق المحال التجارية وحظر التجوال المفروض في قطاع غزة ومنع الحركة، لظروف فرضتها أزمة فيروس "كورونا"؛ لكن فرحة الاجتماع مع الشريك، تحت سقف بيت واحد، هونت مرارة النقص، ومراسم أجبر عليها العديد من العرسان في قطاع غزة.

مساء ٢٤ آب/ أغسطس 2020م، يستمع العريس يوسف شقفة إلى خبر عاجل مع صديقه، وأعلن فيه "حظر التجوال بعد اكتشاف حالات مصابة بفيروس كورونا داخل المجتمع"، يشرك صديقه في هذه الصدمة التي أوقعت معها كل مخططاته: "شكلها حتقعد مش أقل من سنة الموجة"، وقرر إلغاء مراسم الفرح، وتأجيلها إلى ما بعد أزمة الفيروس.

يخرج لك صوت عبر الهاتف، لشخص مقتنع بما فعله: "لم أرد المخاطرة بحياة أي شخص، بدل الزفاف كنت أستطيع توفيرها، لكن ارتأيت أن تكون الفرحة على "السكت" ونعيد تنظيم عرس كبير بعدما تنتهي الأزمة".

الشيء الذي خفف أيضًا عن العروسين أن "صور فرحتهم تعممت على مستوى القطاع، وانتشرت في الفضاء الأزرق وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي".

وحيد أمه

لكن كان عليه تجاوز عقبة أمامه، فوالده متوفى، وهو وحيد أمه التي كانت تنتظر موعد الزفاف المحدد في 29 سبتمبر/ أيلول، لإحياء فرحتها المنتظرة، "هدا مستحيل لازم أفرح فيك"، حاول يوسف بطرق شتى إقناع والدته: "اليوم قادر آخدها على السكت، الله عالم بكرة أقدر ولا لأ؛ خاصة أنه الشوارع مسكرة"، بعد جدال، اشترطت الأم: "أوافق، بشرط إقامة الفرح مرة أخرى بعد انتهاء الأزمة"، وهكذا تمت المراسم.

"أما زوجتي فتقبلت الأمر، فهي لا تنظر إلى المظاهر، وتفهمت الموضوع" يقول يوسف.

"في حياتنا هناك أشياء ثابتة، وهناك كماليات، الثابت هو شريك حياتي، أما الكماليات مثل بدلة زفاف فكنت أستطيع توفيرها، لكن حفاظًا على سلامتي وسلامة من أحب رفضتها أيضًا، فارتديت الثوب الفلسطيني التراثي، ولن أجد أفضل منه للفرحة" هذا الكلام قالته عروسه ريم العماوي.

هذه العروس خرجت بلا "صمدة"، ومراسم الاحتفال بزفافها اقتصرت على مشاركة من يسكنون بداخل عمارتها من أقاربها، أما الذين يسكنون في العمارات المجاورة فلم يتلقوا دعوة، ليس لسبب ما وإنما "للحفاظ على سلامة الجميع".

تعترف: "صحيح أني ظهرت بالصورة كأني حزينة، هذا حقيقي وطبيعي، ولكن ليس بسبب ظروف الخروج، بل لأني خرجت من بيت والدي، ولا يوجد عروس تخرج تبتسم من بيت والدها".

الخطوة هذه لم تكن لها علاقة بالتكاليف، أما موعد الزفاف المحدد فكان مرتبطًا بذكرى ميلادها في 29 سبتمبر/ أيلول الجاري، لكن ظروف الفيروس "أحبطت" المخطط، وجعلتهم يتجهون لمراسم صامتة.

فرحة تغير مسارها

تبقى أربعة أيام على الفرحة المنتظرة، بعد أن أنهى العروسان محمد غنام ورزان عطوة الاستعداد لإقامة حفل زفاف غير تقليدي؛ والعودة إلى "أفراح الزمن الجميل" في صالة أفراح كبيرة؛ لكن حظر التجوال في محافظات قطاع غزة أفسد كل المراسم، وغير مسار الفرحة.

لم ينتظر العروسان كثيرًا، ولم يريدا أن يصبحا أسيرين "للمجهول"، خشيا أن يأتي القادم بما هو أسوأ، فذهبت تقديراتهما وتقديرات عائلتيهما إلى أن أزمة "الجائحة ستطول، وأن فتح صالات الأفراح سيكون بعد أشهر ربما"، وهو ما جعلهما ينظمان حفل زفاف "على الضيق" في الرابع من سبتمبر/ أيلول الجاري.

"خططنا أن يكون فرحنا غير تقليدي، حتى لو كان في صالة أفراح، بأن أدخل بعباءة وزوجتي بثوب فلسطيني مطرز، ونشترط على المدعوين ارتداء ثوب فلسطيني، وأن نعرض أغاني التراث القديمة، لكون أمي وجدتي وعماتي وخالاتي يقدسن الثوب الفلسطيني، ويحفظن الأغاني التراثية".

يبتسم صوته: "قلنا نعمل إشي جديد نسترجع فيه ذكريات قديمة والكل يفرح فيها".

سفرة طويلة "لها أول وملهاش آخر"، تضم أطباقًا لأطعمة فلسطينية "قديمة حديثة"، مزينة بالحلوى، وورق "الدوالي"، والمفتول، ومعجنات "وكل ما لذ وطاب"، سهر أحبابه المقربين عدة أيام متتالية لتجهيزها وإعدادها، زينوا صالة المنزل بأحبال الزينة وأعلام فلسطين.

دخل العريس محمد غنام بعباءة بيضاء ورداء بني فوقها، والعروس ترتدي ثوبًا تراثيًّا أبيض ومطرزًا بأشكال زخرفية زاهية الألوان تروي أصالة الشعب الفلسطيني، دارا حول سفرة الطعام، والنساء يلقين عليهما الورود، انتهت الفقرة، ودخلت الجدتان والعمات بأثواب تراثية متشابهة اللون، يحملن آنية فوق رؤوسهن، مليئة بالورود، يرددن أغاني تراثية قديمة.

"فوق النخل فوق .. يابا فوق النخل فوق .. مدري لمع خده؛ يابا مدري القمر فوق .. والله ما أريده باليني بلوى" انتهت الأولى من دورانها ومعه انتهت كلماتها تلك.

تكمل حلقة الفرح السيدة الثانية وهي تغطي أعلى فهمها بيدها: "يا صلاتك يا محمد صلاة محمد تخزي العين، يا صلاتك يا محمد من عيني وعين الحسادين، عطاف عيني عطاف أسبوعايا أرجال الخطاف يا زلم لأهل بتير بتخوف ولا بتخاف".

"تعي ع الفي، تعي ع الفي أنا بدي شوفك لحظة بالله استني شوي؛ والسمرا قالت أنا عيوني كبار، ومكحلين من الله وشعراتي الكتار، روحي لك بيضة يا شعرك شعر جوار، واللي بيهواكي مرجوعه علينا شوي، والبيضا قالت نحنا الكواكب يلي حطونا بأعلى المراتب، روحي لك سمرا يا زفت المراكب ويلي بيهواكي مرجوعه علينا شوي" ختمت السيدة الثالثة دائرة الفرحة.

لم يتسع المكان للمراسم التي كان يحلم بها العروسان، لكنه اتسع لفرحة غمرت قلوب الجميع، بل تخطت الفرحة حدود المنزل لتنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، وتحظى بثناء جمهور كبير، أبدى إعجابه بهذا الشكل الجميل من إحياء التراث.

يبدي رضاه بما فعله: "سعيد جدًّا من اللي عملناه، حبيت الجو غير التقليدي، الفرحة كانت من القلب والجميع كانوا مبتهجين، جميع المدعوين انبهروا، التعليقات كانت إيجابية، خاصة أن جميع المدعوين –وكانوا من الدائرة المقربة – التزموا بارتداء الثوب الفلسطيني التراثي".

عشرات الأعراس أقيمت بالنظام نفسه، تحت مسمى فرحة "عالسكت"، بعضهم استطاع توفير بدل زفاف، وبعضٌ لم يستطع، ربما كانت هذه الظروف ملجأ لدى بعض للهروب من التكاليف المادية الكثيرة والمرهقة، سواء أرغب بذلك أم لم يرغب.

العريس محمد غنام --.jpeg