فشلت مواسم التطبيع دائمًا، وعلى الرغم من الاتفاقيات التي عُقدت بين بعض الأنظمة السياسية العربية والكيان الصهيوني، في سبيل تكريس حالة من حالات المعايشة بين الطرفين، إلا أنها ظلت دائمًا حبرًا على ورق، ولا تكاد تتعدى مقرات الحكم هنا أو هناك، وكان كل الضخّ الإعلامي لها سرعان ما يتلاشى تحت وهج حقيقة كبيرة واحدة، هي أن الشعب العربي كله يرفض أن يطبع علاقاته مع الكيان الصهيوني، قبل إيجاد حل حقيقي -على الأقل للقضية الفلسطينية- يضمن عودة الحق إلى أهله، وبما يرضي أهله، وعلى الرغم من ظهور أصوات نشاز في معزوفة الإجماع العربي الشعبي في مواجهة التطبيع، إلا أنها بقيت دائمًا خارج دائرة التأثير، وانتهى بها الأمر إما بإعلان فشلها أو بنكوصها عن محاولاتها أو موتها التام. ومع هذا يبقى هاجس التطبيع حقيقيًّا، وخصوصا أن الكيان الصهيوني مُصرٌّ عليه، بِعدِّه الطريق الوحيد إلى تغيير التوجه الأخلاقي العربي والعالمي أيضا، ضد كيان محتل ومغتصب لفلسطين، ذلك أن الصهاينة يعرفون تمامًا أن الشعوب -في النهاية- هي القوة الحقيقية في المعادلة، حتى وإن صودر حقها في الكلام وإبداء الرأي على الأقل، فلن يستكمل نظام ما شرعيةً مطمئنةً إنْ خالف توجهات الشعب في أمرٍ يمسُّ ضميره الأخلاقي وعقيدته الدينية وكيانه القومي ومبادئه التاريخية، وهو ما تنعقد عليه قضية فلسطين في قلب كل عربي ومسلم. ولهذا فإن الرفض الشعبي للتطبيع بأي شكل ممكن، واجب لا ينبغي التنصل منه تحت أي ظرف وبأي حجة، فهناك دائمًا وسائل وطرائق يمكن أن يختار المرء منها ما يستطيع إليها سبيلا، وفقًا لمعطيات الواقع في بلده، فلا تتعامل كل الأنظمة العربية بالمسطرة نفسها مع قضية التطبيع.
التطبيع كان ولا يزال خيانة للقضية الفلسطينية والأمة العربية، والمؤسف أن التطبيع مع الاحتلال أصبح عند البعض وجهة نظر، ومن هذا المنطلق الخطأ تتجه الدول العربية ولا سيما دول الخليج العربية لأسباب داخلية وخارجية مختلفة، إلى تطبيع العلاقات مع (إسرائيل)، وذلك قبل التوصل إلى حلّ عادل للقضية الفلسطينية، وتعتقد هذه الأنظمة أن التطبيع مع (إسرائيل) يساعدها في حماية أمنها وتقريبها من واشنطن، وهنا يتساءل عبد الباري عطوان في مقاله: "هل تستطيع إسرائيل حماية نفسها من صواريخ المُقاومة حتّى تحمي الإمارات؟ بغض النظر عن موقف الفلسطينيين وموقف شعبها من هذا التطبيع، علمًا بأن الرأي العام العربي ما زال يرفض بأغلبية كبيرة الاعتراف بـ(إسرائيل)، وقد توطدت علاقات بعض الدول مع (إسرائيل) إلى درجة التحالف قبل إقامة علاقات دبلوماسية؛ ما يجعل مصطلح التطبيع قاصرًا عن الوصف، لكن يبقى التركيز على خطوات تطبيع العلاقات، نظرًا إلى حساسية الرأي العام العربي الشديدة ضده، ويبدو واضحًا أن هذا الموقف لم تؤثر فيه الهموم والقضايا الداخلية للشعوب العربية؛ فالعلاقة مع (إسرائيل) مدفوعة بحسابات الأنظمة وليس الشعوب، ففضلا عن أن الرأي العام العربي يدرك أن السلام مع (إسرائيل) لم يحقِق الرخاء للشعوب في الدول العربية التي وقّعت اتفاقيات معها، وأن هذا السلام كان من مصادر وقف الإصلاحات في النظام السياسي، فإن الشعوب العربية تعدُّ القضية الفلسطينية، بوصفها آخر قضية استعمارية، قضية الأمة العربية جميعها، وهو أمرٌ لم تستطع الأنظمة العربية تغييره.
ففي وقت لا تزال الشعوب العربية بغالبيتها تجاهر برفض أي خطوات تقارب أو تطبع مع (إسرائيل)، بل وتَلعن كلّ من يفكر في التطبيع مع الاحتلال، مثلما ظهر بوضوح في الأصوات التي خرجت من الإمارات وسلطنة عمان والبحرين التي جددت موقفها ضد التطبيع بعد الإعلان المفاجئ للتطبيع بين دولة الإمارات وإسرائيل، على قاعدة أن التقارب الحاصل بين عدد من الدول و(إسرائيل) لا يعدو كونه مدفوعًا بحسابات سياسية لدى الأنظمة دون أن يكون له أي تأثير على الشعوب العربية، بل على العكس من ذلك، ترى فيه الشعوب العربية خطرًا يهدد تطلعاتها واستقرارها ودفعها نحو الديمقراطية والإصلاحات وضمان الحريات، خصوصاً أن (إسرائيل) أساسًا لا تقيم علاقات وتحالفات إلا مع الديكتاتوريات في المنطقة.
الكذبة التي رافقت إشهار التحالف الإماراتي الإسرائيلي برعاية الرئيس الأمريكي ترامب، وحاولت تصوير أن القضية الفلسطينية و"وقف الضم" هما السبب والمحرك الأساس لهذا التقارب طويلًا، إذ جاءت التصريحات الإسرائيلية، وعلى هامشها الأمريكية لتدحضها، في وقت كانت جميع المعطيات على مدى الأشهر الماضية تشير بوضوح إلى أنه لا دخل للقضية الفلسطينية بانتقال أبو ظبي و(تل أبيب) إلى مرحلة الإعلان رسميًّا عن تحالفهما، وقد أكد نتنياهو والسفير الأمريكي لدى (إسرائيل) ديفيد فريدمان، أن الاتفاق يكون على تعليق مخطط الضم وليس وقفه. وكرر نتنياهو مرارًا أنه لا يزال ملتزمًا بفرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، وأن الأمريكيين طلبوا منه تعليق التنفيذ مؤقتًا فقط قبل إعلان التقارب الإسرائيلي الإماراتي، مضيفًا: "جلبتُ السلام وسأحقق الضم"، وقال فريدمان من جهته: إن "مختلف الأطراف اختارت بدقة الصيغة: توقف مؤقت، وليس استبعاد الأمر نهائيًّا".
ما أريد إيضاحه في مقالي هو موقف الرأي العام العربي في مسألة التطبيع مع الاحتلال، في حين كانت الإمارات منشغلة، عبر مسؤوليها وصحفها، في محاولة الترويج لـ"مكاسب" خروج التحالف إلى العلن، كانت المواقف العربية والإقليمية من البحر إلى النهر تظهر انقسامًا واضحًا، بين مؤيد للخطوة، على غرار المواقف الصادرة من سلطنة عُمان والبحرين اللتين تعززان التسريبات بشأن نيتهما السير على خطى الإمارات، وبين معارض لما جرى، على غرار تركيا التي تدرس قطع العلاقات مع الإمارات، بالإضافة إلى إيران.
فرغم حالة الهرولة الرسمية العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وفي سياق ما تتخذه جولات التطبيع من طابع رسمي، تبقى الشعوب العربية حرةً رافضة لهذا الخيار، معبّرة عن ذلك بأشكال مختلفة، تارةً بالتظاهرات والمسيرات الاحتجاجية، وتارةً بالحملات الإعلامية والاجتماعية، ما يؤدي إلى تلاشي الموجة وعودتها إلى مربع الصفر.