(القدوة هو النموذج والمثال الذي يقتدى به في سلوكه وتصرفاته وأفعاله). وللقدوة في العملية التربوية تأثير واضح وكبير في تحديد الاتجاهات والقيم الفردية والمجتمعية... فإن وُجدت  القدوة الحسنة يعني أن المرجو منها الارتقاء والتطور والنهضة وإن وُجدت القدوة السيئة يعني أن مصير الفرد والمجتمع هو الانهيار والفشل والتفكك ...  قد لا يمتثل الفرد للتوجيه والخطاب والأوامر والنواهي (وترى ذلك في الجماعات البشرية ) لكنه يقتنع ويتأسى بالأفعال حين يراها ممن يعدهم قدوة له حتى دون توجيه له ... ولعل هذا الأمر من خصائص السلوك البشري الذي لا يتقبل أي عادة أو فكرة غالبا إلا بعد أن يُدرك كونها حقيقة تتمثل أمام عينيه وواقعاً يعايشه ... الفكرة تبقى مجردة لا فائدة منها إن لم تنعكس على تصرفات الفرد وسلوكه... وحتى يقتنع الآخرون بالفكرة يجب أن يقتنعوا بالإنسان الذي يحملها ويطرحها ... وقد كان من أهم عوامل انتصار الدعوة الإسلامية الأولى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ( كما ذكر الكثير من المؤرخين والمفكرين والدعاة) في سيرته وسلوكه، وقيادته، وإدارته، وأسلوبه في نشر الدعوة، وإصراره وتحمله كل المشاق والآلام والأذى، ورفضه كل المساومات، وصبره وثباته في مواقع التحدي، فقد كانت هذه المميزات عامل قوة واندفاعة في الاستقطاب والجذب.. وكان لها الأثر الكبير في ظهور الدعوة وسرعة الانتصار والانتشار . قال تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ " ( آل عمران،١٥٩) ... وكما روت كتب التاريخ أن القدوة الحسنة كانت عاملًا مهمًّا في انتشار الإسلام في الكثير من البلاد التي لم يصلها الفتح الإسلامي؛ إذ دخل في هذا الدين الحنيف شعوب بكاملها لَمَّا رأوا القدوة الحسنة خُلقًا حميدًا في أشخاص مسلمين صالحين من الرحّالة والتجار والمارين بها ...

 وكما يؤكد خبراء التربية حول مراحل حياة الإنسان أن الطفل ينشأ متأثرًا بما يسمعه من أقوال، وما يشاهده من سلوكيات، فإذا رأى تناقضًا من الأبوين، أو ممن يراهم قدوة له، فإن ذلك يفتح أمامه باب الانحراف والاضطراب، ويعطي الفرصة لوقوع أخطاء، وسلوكيات يصعب معالجتها، فالنشءُ والشباب في حاجة ضرورية لرؤية نماذج تتحلى بالسلوك السويّ والأخلاق الكريمة يتعاملون معهم فيغرسون فيهم الاستقامة والصلاح والثبات ...  وإلا ما فائدة أن يأمر الوالد ولده بالصدق في حين الوالد نفسه يكذب على الناس على مرأى ومسمع من أبنائه ... وكيف يمكن للوالد أو المُربي أن يأمر من هم تحت يديه بالتزام الصلوات وحضور حلقات القرآن والذكر وهو لا يُرى في المساجد ولا يلتزم بشيء من ذلك ... كيف يمكن للداعية أن يطالب الآباء والأمهات بأن يربوا أبناءهم وبناتهم على الدين والاخلاق والالتزام  في حين أبناؤه وبناته لا يتحلّون بقيم ولا بأخلاق ولا دين ... وفى عالم السياسة كيف يمكن للحاكم أو المسؤول أن يُطالب شعبه بالصدق والأخلاق والمواطنة الصالحة والصمود والثبات والمزيد من التضحيات والصبر ويدعو للدراسة في جامعات الوطن في حين هو يعيش الرفاهية المطلقة وتُحركه الحسابات الذاتية والشخصية ويبعث بأبنائه ليدرسوا في أرقى الجامعات العالمية وتظلله أسقف القصور و الفنادق الفاخرة  ويجلب لنفسه وعائلته احدث موديلات الأزياء ويركب أحدث موديلات السيارات الفاخرة ، ويطلب من شعبه أن يتقشف في حياته في حين موائده تزكم الأنوف من رائحة مختلف أصناف الطعام والشراب الموضوعة عليها ليلاً ونهارا ... لا أعتقد أن المنطق والعقل يجعلان من هؤلاء قدوة لشعوبهم ... وما أصاب مجتمعاتنا العربية والاسلامية من انحطاط في القيم والأخلاق وعدم الانتماء للدين والمواطنة نتيجة طبيعية لغياب القدوة الحسنة ... وقد سطّر التاريخ على صفحاته سيرَ نماذج كثيرة مثلت القدوة لشعوبهم التي صنعت حضارات عظيمة لا تزال آثارها شاهدة ، وحكاياتها لا تنساها الأجيال. وفى التاريخ الاسلامي شخصيات عظيمة من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين والدعاة المصلحين ... وقد اختصر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بكلمات ما يجب ان تكون عليه القدوة فقد كان يشدد على العلماء وأهل الفضل والمكانة في أمور لا يشدد فيها على غيرهم ، لكونهم ” قدوة”، كما كان يشدد على أهل بيته وأقاربه أن يكونوا أول الممتثلين لما يأمر به الناس، وأن يكونوا أول المنتهين عما ينهى عنه الناس، فكان رضي الله عنه إِذَا نَهَى النَّاسَ عَنْ شَيْءٍ دَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ وجمعهم ، فَقَالَ : ” إِنِّي نَهَيْتُ عَنْ كَذَا وَكَذَا ، وَالنَّاسُ إِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْكُمْ نَظَرَ الطَّيْرِ إِلَى اللَّحْمِ ، فَإِنْ وَقَعْتُمْ وَقَعُوا ، وَإِنْ هِبْتُمْ هَابُوا ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لا أُوتَى بِرَجُلٍ مِنْكُمْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِمَّا نَهَيْتُ عَنْهُ النَّاسَ ، إِلا أَضْعَفْتُ لَهُ الْعُقُوبَةَ لِمَكَانِهِ مِنِّي ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَتَقَدَّمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَتَأَخَّرْ" ... وقد اختصر الإمام عليٌ رضي الله عنه أداء عمر في خلافته بكلمات بسيطة عندما فُتحت فارس وجيء له بسواري كسرى فامتدح عمر أمانة من جلبه له ووضعه بين يديه فقال عليٌّ رضي الله عنه: " يا أمير المؤمنين عففت فعفّوا ولو رتعت لرتعوا " هذا ما يجب ان يكون عليه الحاكم او القائد " القدوة" ... والتاريخ الحديث تحدث عن قادة ثورات عربية واسلامية وعالمية مثّلوا قدوات لشعوبهم وللأحرار في هذا العالم مثل عبد الكريم الخطابي وجمال الدين الأفغاني وعمر المختار ومحمد ادريس السنوسي ومحمد المهدى ويوسف العظمة وعز الدين القسام وأمين الحسيني ... ومن أمريكا اللاتينية تشي جيفارا البطل والثائر الأممي الذى حارب الامبريالية الامريكية ودفع حياته ثمنا لذلك ... وكاسترو وشافيز وأورتيغا الذين وقفوا في وجه أمريكا وغطرستها وبالرغم من حصارها لبلادهم عقودا طويلة لم يخضعوا ولم يستسلموا ... أما في حالتنا الفلسطينية كان لدينا قدوات حقيقية تواضعت امام عظمة شعبها، أكلت وشربت ولبست مثل عامة الناس ، وشعرت بآلام الجوع والحصار الذى يعانيه شعبها ... ما تنازلت وما باعت وما خضعت وما خُدعت  ودفعت حياتها ثمناً لمواقفها ونضالها وجهادها ... هؤلاء هم مصابيح الدجى الذين يملؤوننا ثقة وطمأنينة بأن القدوة يمكن أن تحضر من جديد.