في مراسم تسليم واستلام قيادة "فرقة غزة" في جيش الاحتلال الإسرائيلي في 2 أغسطس الجاري، وداخل معسكر "ريعيم" بغلاف غزة، تملكت القائد السابق للفرقة "اليعيزر توليدانو" حالة من النشوة، وخاطب حركة حماس فيما تشبه بطولة متأخرة، ما نصّه بأن "على حماس أن تتوقف عن زراعة قواعد الصواريخ في الأرض، وبدلاً من ذلك زراعة القمح وحصاد المحاصيل".
تختصر هذه الرسالة كل مراوغات السياسة الأمنية الإسرائيلية في التعامل مع حركات المقاومة، وخصوصًا حين يحاول "توليدانو" السكرتير العسكري السابق لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، التبرير لجرائم فرقته، والترويج للنشاط العملياتي للجيش وادعاء أنه ليس لغرض التدمير والقتل.
وفي الوقت الذي لم يكن هناك أي مراسل عسكري يسأل توليدانو عن حصاد من توقف سابقًا وزرع، وعن مصير من وثق بجزرة السلام، قررت الإجابة: لأننا من فداحة الخطأ تعلمنا.
الرئيس الراحل ياسر عرفات استمع لهذه الدعوة في وقت سابق، آمن ورفع وروّج لشجرة الزيتون بأنها تحمل ثقافة الحياة والسلام. حدث عمليًا أنه توقف وزرع، وكانت النتيجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون قال في حوار مع صحيفة معاريف الإسرائيلية عام 2002 إنه "شعر بالأسف" لأنه لم يستطع تصفية عرفات مبكّرًا في لبنان إبان غزو 1982.
وفوق ذلك، لم يتخلّ الإسرائيليون عن نزع القيم التي تحملها شجرة الزيتون واقتلاعها، في حياة عرفات وبعد رحيله، فقد وثقت السلطة الفلسطينية في العام 2018، أكثر من 7 آلاف حالة قطع وتدمير لأشجار الزيتون بفؤوس المستوطنين. وبصفة عامة، سجّلت الإحصائيات تدمير نحو 800 ألف شجرة منذ عام 1976، بما يؤكد أن أعمال العنف في حقول الزيتون جزء من نشاط إستراتيجي يسمح به الاحتلال.
المعنى السياسي لهذه الأرقام، أن "إسرائيل" تستعمل السلام الزائف لأجل القتل، ولا يخلو خطابها من عبارات "ازرع واحصد" فيما المعنى الحقيقي لها هو الاقتلاع والقمع، أو بعبارة أخرى "سلام مخادع من أجل الحرب"، فمناحيم بيغين، رئيس الوزراء الإسرائيلي الحاصل على جائزة نوبل للسلام، هو قائد منظمة "أرغون" الإرهابية، ومن أشهر ما خلفته هذه المنظمة العسكرية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، مذبحة دير ياسين يوم 17 سبتمبر/أيلول 1948 التي راح ضحيتها أكثر من 360 فلسطينيًّا، كما ذكر ذلك بيغن نفسه في كتابه "التمرد.. قصة أرغون"، ويحاول توليدانو مواصلة الدور.
فهل يمكن تصديق أن توليدانو، الذي كان له دور بارز في مكافحة المقاومة خلال الانتفاضة الثانية، أو "إسرائيل" بالعموم، كانت ستسمح بحقول القمح في قطاع غزة؟ ماذا فعلت بالفدائيين الذين زرعوا الزيتون؟
من المستحيل، أن نصدق هذا الكيان الذي يدعو للسلام، وسط سجله الكبير من جرائم الاقتلاع والقتل.
يوجد نحو 670 ألف مستوطن ينتشرون في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، ويقيمون في 196 مستوطنة و120 بؤرة استيطانية، هم حصاد ما زرعه فريق التسوية، ونتيجة لهذا الخطأ الكارثي، ثم يعودون ليكرروا التجربة علينا، ويدعوننا لزراعة القمح!
دعوة توليدانو تحمل في جانبها الآخر، تصريحًا بأن ثلاث سنوات، فترة قيادته فرقة غزة، لم تتوقف حماس عن الإعداد وزراعة الأرض بما يجب، وبما يكون حصاده عودة ووطن. وهي في جانب آخر، بلاغ وتحذير للقائد الجديد بأن عدوًّا مختلفًا ومهمات معقدة تنتظرك.
قد يكون ذلك كافيًا للوعي بهذه الحقائق وكشف زيف دعوة توليدانو، التي لم أجد أفضل من "أمل دنقل" للرد عليها بأبيات شعره: إن اليدَ الآدميةَ واهبةَ القمح، تعرفُ كيفَ تَسنُّ السِّلاح.