لا تمر مقالة أو دراسة أو بيان صحافي أو تصريح لقائد وطني، أو لحزب سياسي فلسطيني إلخ... إلا ويستخدم مصطلح الاستراتيجية الوطنية للخروج من المأزق السياسي، وبما أن هناك حالة إجماع فلسطيني من فتح إلى اليسار إلى حماس والجهاد، فما الذي يمنع أن ترى هذه الإستراتيجية الوطنية النور بعد سنوات من الحمل، أم أننا أمام حمل كاذب وعليه ستبقى هذه الإستراتيجية وهماً؟ وستعمل إسرائيل على إبقائه وهماً عبر استدامة حالة الانقسام التي تساعد في تمرير صفقة القرن وخطة الضم.
أولاً: أسباب تعثر الولادة.
في تقديري أن ثمة عناصر رئيسة تحول دون اكتمال الجنين (الاستراتيجية الوطنية)، ومن أهم العناصر:
- جماعات المصالح: الإستراتيجية الوطنية تعني مواجهة الاحتلال الصهيوني وفي ظل نظام دولي أحادي القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة التي تنحاز بشكل مطلق لإسرائيل، فإن أي استراتيجية وطنية جوهرها التخلص من الاحتلال تعني معاداة الولايات المتحدة الأمريكية، وعليه سيكون مصطلح الارهاب والعزل السياسي تلاحق كل من يتبنى هذه الاستراتيجية، وهو ما يتعارض مع جماعات المصالح في الحالة الفلسطينية التي ترى في حالة الاستقرار والسلام والانقسام والتعايش مع الاحتلال هي البيئة الأنسب لمصالحها.
- تباين الرؤى السياسيّة: أيضاً عامل آخر يحول دون ولادة الاستراتيجية الوطنية وهو تباين الرؤى السياسية للحركة الوطنية الفلسطينية، فهناك من يرى بالكفاح المسلح هو الطريق الأمثل لنيل الحقوق، وهناك من يرى بالمقاومة السلمية أنها الطريق الأوحد لنيل الحقوق، إلخ من التباينات التي تعرقل بناء استراتيجية وطنية متفق عليها.
- الأجندات الإقليمية والدولية: لا يمكن أن ننكر حجم التأثير الاقليمي والدولي على بعض أقطاب الحركة الوطنية، ولأننا لا نمتلك اقتصاداً حقيقياً، ونعتمد على المال الخارجي وهو ما يجعل هذا المال مالاً سياسيّاً يزيد من حجم الفجوة والتناقض بين القوى الوطنية والإسلامية والمجتمع المدني، وكذلك النخب الفكرية والثقافية.
- أزمة الثقة التي عزّزها الانقسام: قبل الانقسام كانت الثقة بين الحركة الوطنية مختلّة، وبعد الانقسام زادت اختلالاً، وعليه فإن كل طرف يخشى توجهات الطرف الآخر لبناء الإستراتيجية الوطنية لمواجهة الاحتلال وتعزيز الوحدة الوطنية.
- غياب فكر المراجعة والتقييم: قد يكون هذا من أهم الأسباب التي تعرقل ولادة الجنين، فلو قام كلّ فصيل بتقييم تجربته السياسية ومعرفة نقاط القوة والضعف، فإن ثمة احتمالًا كبير بأن تتقاطع الكثير من نقاط الضعف بين مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية، ويبقى الجزء البسيط الذي من الممكن التوافق بشأنه لبناء استراتيجية وطنية، لكن للأسف الواقع الراهن يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن كلَّ فصيل يؤمن بأن مساره هو الصواب المطلق وغيره الخطأ المطلق، وهذا أحد أسرار بقاء وديمومة واستمرار الاحتلال ليومنا هذا.
- الجغرافيا السياسية: تعاطى الاحتلال مع الجغرافيا الفلسطينية من خلال تقسيمات سياسية مختلفة، حيث فرض واقعاً في التعامل مع فلسطينيي 1948 مختلفاً عن التعامل مع القدس أو الضفة الغربية أو الشتات أو قطاع غزة، حتى ترسخ انقساماً نفسيّاً بجانب الانقسام الجغرافي، وهذا النجاح الصهيوني انعكس على فرص بناء استراتيجية وطنية، فما يقبله القطاع قد يرفضه الشتات أو الضفة، وما يقبله أهلنا بالضفة قد ترفضه الأطراف الأخرى، وهكذا.
ما سبق، هي عوامل مانعة لبناء إستراتيجية وطنية، وهي تؤكد أن هذا المصطلح يكاد يكون حملاً كاذباً إلى حين امتلاكنا القدرة في تحييد هذا العوامل وتحويلها من تهديد إلى فرص لبناء الاستراتيجية الوطنية.
ثانياً: الانتقال من حالة الوهم إلى الحقيقة.
حتى يتحوَّل الحمل الكاذب إلى حمل حقيقي لابد من توفر عناصر الزواج، والعلاج، وقبل ذلك الإرادة الربانية، وفي حالة بناء إستراتيجية الوطنية، فإن الإرادة الربانية قائمة ولكنها تنتظر الاخلاص بالعمل، والزواج هو بمثابة الحوار الاستراتيجي بين الأطراف الفلسطينية القائم على تحييد الصالح الخاص وتقديم الصالح العام، والقادر على تحييد دور جماعات المصالح والأجندات، والمستند على منهجية علمية قائمة على التقييم والتقويم للمسار والمسيرة والتي هي بمثابة العلاج لكافة الأمراض السابقة، حيث ينبغي أن يجيب التقييم على تساؤل: لماذا لم نتحرر حتى اللحظة من طغيان الاحتلال؟ أي نحدِّد ماذا نريد وكيف نحقق ما نريد؟ حينها نستطيع أن نزف لشعبنا ولادة المولود الجديد وهو الاستراتيجية الوطنية التي انتظرناها منذ زمن طويل.