بغرفة مظلمة فيها جهاز بروجوكتر قديم، يضع الشاب محمد مصلح ورقة بلاستيكية شفافة تحت عدسته المضيئة لشخصية يود رسمها، ليتقن تفاصيل يصعب عليه رؤيتها بعينيه الضعيفتين اللتين لم تكبحا شغفه بالرسم.
بالاهتمام نفسه على خطين متوازيين سار مصلح (38 عامًا)، بموهبته الفنية في الرسم، ومهارته في ممارسة الرياضة التي اكتشفها بعد إعاقته، فلم يسمح لجانب أن يطغى على الآخر، فيمارس الأخيرة في ساعات النهار حيث النشاط والهمة، والأولى مع حلول الظلام حيث الهدوء، ولكن كلتاهما استثمرهما في مجال التفريغ النفسي من الكبت والضغوطات الحياتية، وأحرز بصمة له بهما.
والغزي مصلح خريج هندسة نظم كهربائية، ولاعب في المنتخب الفلسطيني للأشخاص ذوي الإعاقة.
الرسم
خطوطه العشوائية في مرحلة طفولته لم تكن في البداية تنم عن موهبته في الرسم، ولكنه بدأ يميل نحو استخدام الألوان والطلاءات وفرش الدهان والأقلام، ولم يتسع لها إلا جدران البيت، فكان بعد تفريغ رسمته غير واضحة المعالم على الحائط يلقى عقابًا من والديه على ما اقترفته يداه.
وبعد عِقابات متكررة انتبه والداه إلى وجود بذرة لموهبة داخلية تحتاج إلى عناية ورعاية، وعن ذلك يقول مبتسمًا: "أصبح والدي يشتري لي الألوان الخشبية وكراسات الرسم الصغيرة ليرى إبداعي في الخرابيش ورسومات غير مفهومة، ولكن عندما أُسأل: "ماذا ترسم؟" أشرح، لأتفاجأ بضحكاتهم أو نظرات استغرابهم مما أتحدث".
وفي الانتفاضة الأولى، أصيب بطلق ناري في رأسه، أصاب شبكية العين، هنا توقفت مراسلة صحيفة "فلسطين" متعجبة: "كنت حينها ثماني سنوات!"، يعلق: "كنت مجاهدًا بحجر صغير ومدافعًا عن وطني الذي يستبيحه المحتل الإسرائيلي ليل نهار".
بعدها أصحبت الحياة لونها قاتمًا، لا يرى فيها إلا اللون الأسود مدة شهرين، وما زاد ألم عائلته أن والده لم يستطع علاجه والتنقل به في المستشفيات تجنبًا لقطع مصدر دخله، لكونه عاملًا في الأراضي المحتلة سنة 1948م، وبعد عمليات محلية تسرب خيط من النور إلى عينيه، واستقر نظره على ذلك، ولازمته إعاقة بصرية جزئية صنفت على أنها B2.
عاد إلى حياته الطبيعية ومدرسته بثقل نظارته الزجاجية ذات العدسات المكبرة، وكان يواجه خلافًا مع معلميه بداية كل عام لجلوسه في المقاعد المتقدمة بالغرفة الصفية.
وبدأ بألوانه التي يحبها يلون حياته من جديد، فعمل مصلح على تطوير موهبته بإقحام نفسه في دورات تدريبية، ليتقن الرسم في مجال الشخصيات والخيال والتجريدي وغيرها.
وعن كيفية رسمه الشخصيات بملامحها الدقيقة، وهل ذلك يمثل إرهاقًا إضافيًّا لعينيه؟، يجيب: "لا يمكن لي ألا أمارس الرسم، فعندما أريد رسم شخصية أبحث عن جهاز بروجوكتر من أستاذ علوم، أو جمعية وأستأذنه لتشغيله 10 دقائق فقط، وأضع عليه الورق البلاستيكي الشفاف بالشخصية التي أود رسمها لأضع الخطوط العريضة لها، ثم أعمل على إتمام تفاصيلها فيما بعد".
ويشير إلى أنه شارك في العديد من المعارض المحلية التي تهتم بالشباب الموهوبين، وتتعلق بالرسم التعبيري والتجريدي.
وفي ذلك الوقت ظهرت اهتماماته بممارسة الرياضة، خاصة بعدما أخذت قدماه تقودانه نحو نوادي واتحادات ذوي الإعاقة حيث يتشارك جميعهم في المعاناة نفسها، فكان يشغل نفسه فيها طيلة الوقت ليتأقلم على وضعه الجديد.
مارس من ألعاب القوى -ومنها الجلة والرمح والقرص- إلى كرتي السلة والهدف، يقول: "شاركت في الأولى في بطولة تونس عام 2000م، وحصلت على المركز الثاني، وبعدها قررت الانتقال من الألعاب الفردية إلى الألعاب الجماعية".
وكانت له مشاركات خارجية في مخيمات تدريبية كتونس ومصر وبكين حتى عام 2008م، وفي دورات تحكيم للشباب والفتيات وبطولات السباحة، وفيما بعد أصبح مدربًا للياقة البدنية وكرة الهدف إذ شارك في آخر بطولة للمنتخب العام الماضي بالسعودية.
والعقبات التي يواجهها مصلح –كما يقول- عدم وجود الإمكانات اللازمة لممارسة الرياضات الخاصة بذوي الإعاقة من ملاعب وملابس، ووجود المحبطين الذين يفسدون عليهم طموحهم، ومع ذلك يحلم بأن يحمل كل شخص من ذوي الإعاقة علم فلسطين على صدره في جميع المحافل الدولية.