عاش قبل يومين حزب الشعب الجمهوري، حزب المعارضة الرئيس في تركيا، انتخاباته الداخلية التي كانت معروفة النتائج من قبل حيث فاز رئيسه السابق للمرة السادسة على التوالي كمال كلتشدار أوغلو الذي يشغل المنصب منذ عام 2010 رغم خسارته كل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية وحتى الاستفتاءات التي خاضها حزبه بقيادته أمام حزب العدالة والتنمية ورغم وعوده المتكررة أنه إن خسر سوف ينسحب من الحلبة السياسية فلم يفعل بل في كل مرة كما هذه قمع كل سياسي منافس له في داخل الحزب تجرأ على منافسته على منصبه واستخدم حتى التهديدات ضد أنصار خصومه حسب ادعاء أحد المرشحين الذين حاولوا منافسته أمس فتفاجأ بسحب عدد من الكوادر القيادية في الحزب بعد وصول تهديدات لهم بالفصل من أعمالهم كما قال في خطابه أمام الجمعية العمومية للحزب أمس.
وهذه الأزمة ليست خاصة بحزب الشعب الجمهوري وحده بل إن المعارضة التركية كلها تعيش ومنذ بداية الألفية أزمة قيادة جامعة فقد فقدت كل التيارات السياسية الرئيسة قدرتها على تصدير قائد منافس لأردوغان ذي كاريزما وتأثير يستطيع تحريك قواعد حزبه وأنصار تياره و إلهاب مشاعر الجماهير وانتاج مشاريع وخطط بديلة لخطط العدالة والتنمية شاملة وأكثر اقناعا للشارع ويعطي للناخب غير المؤدلج (الذي لا يحمل توجها سياسياً فكرياً معيناً) الباحث عن المشروع الذي ينقله من واقعه المعيشي والاجتماعي إلى واقع أفضل الثقة بأنه هو البديل بل ركزت كل أحزاب المعارضة رغم بعض الاستثناءات القليلة في طرحها على نقد أداء العدالة والتنمية دون طرح بديل عملي يعطي المواطن الثقة وهو ما يدفع في كل مرة كتلة من المواطنين غير المؤدلجين للتصويت للعدالة والتنمية الذين ينجح الحزب وقيادته حتى في الانتخابات التي خسر فيها العدالة والتنمية بلديتي أنقرة وإسطنبول فلم تكن المشاريع المطروحة هي الدافع للتصويت بقدر ما هو التصويت الانتقامي من بعض الكتل السياسية أو التوافق على إسقاط المنافس من أحزاب المعارضة لكن حتى هذا لم يفد المعارضة في ابراز قيادات جديدة لها.
ومن المعروف أن المجتمع التركي رغم التطور الديمقراطي الذي عاشه منذ الخمسينيات في القرن الماضي إلا أنه ما زال مجتمعا شرقي التفكير يؤمن بالقائد المخلص (وهذا سأعرج عليه بالتفصيل في مقال قادم) الذي يقود الجماهير والشارع أكثر من نموذج القيادة المؤسساتية التي يذوب فيها القائد أو فيها قائد مدير.
فالتيار الكمالي -نسبة لتيار كمال أتاتورك التيار العلماني الراديكالي الذي يؤمن بسيطرة الدولة على الدين ورفض مظاهر التدين حتى في الأوساط العامة- فقد القدرة على انتاج بديل بعد عصمت إنونو الرجل الثاني بعد أتاتورك في التيار ومالت كتلته التصويتية أكثر من مرة نحو اليسار الاشتراكي بقيادة رئيس الوزراء السابق بولنت أجاويد ولم تتكلل بالنجاح محاولات دنيز بايكال الرئيس السابق للحزب من تغيير هذا الواقع رغم شخصيته القوية لكنه افتقد للمشروع البديل وحتى المراحل الأخيرة التي شهدت نوعا من الصعود النسبي في أصوات حزب الشعب الجمهوري فقد حصل عليها نتيجة لعدة أسباب ومنها تراجعه الواضح عن بعض ملامح هويته من رفض الحجاب و معادات التدين ولم يكن آخرها تأييده ولو مكرهًا لقرار إعادة آيا صوفيا مسجدا الأسبوع المنصرم وكذلك تحالفه مع نقائضه من الأحزاب الإسلامية الأيديولوجية كالسعادة أو القوميين كالحزب الجيد وحتى تقبله لأن يكون على اتفاق شبه معلن مع حزب الشعوب الديمقراطي الذي يعتبر الذراع السياسي لحزب العمال الكردستاني الانفصالي الإرهابي و أخيراً فقدان اليسار الاشتراكي لبديل ما دفع كتلته للتصويت للحزب.
والتيار الكمالي ليس وحيدا في هذه الأزمة فالتيار الإسلامي الأيديولوجي أيضا فقد القدرة على التأثير بعد منع أربكان من العمل السياسي الرسمي ثم وفاته وظهور قيادات ضعيفة للحزب اختفى أي بريق لها في ظل وجود أربكان خلف الستار ثم المناكفة العبثية مع حزب العدالة والتنمية وعدم طرح نفسه كبديل حتى وصل الحال بالحزب أن يضطر للدخول في البرلمان ضمن قوائم حزب الشعب الجمهوري العدو اللدود له فكرياً والتعاون مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي الذي يحمل فكرا يساريا متطرفاً ولكن هذا التيار كانت خسارته الأكبر ليس بسبب فقدان القائد فقط ولكن تشابكه الكبير في القواعد الانتخابية والتوجهات الفكرية العامة مع حزب العدالة والتنمية أوجد لمن ناصروه البديل في العدالة والتنمية الحاكم الذي يحمل مشروعا يخدم أنصار هذا التوجه ويحقق لهم طموحاتهم السياسية والأيديولوجية ولو بشكل نسبي وآخرها موضوع إعادة افتتاح آيا صوفيا جامعا كما كان في العهد العثماني .
ولم يكن التيار اليساري الاشتراكي أفضل حظا من حزب السعادة فهو من أكثر الخاسرين أيضا في تركيا نتيجة فقدان قائده التاريخي بولنت أجاويد الذي استطاع كما أسلفت في عدة مرات أن يسحب البساط من تحت أقدام التيار الكمالي والتيارات اليسارية الأخرى ويكون الكتلة السياسية الأكبر في تركيا حتى قدوم أوزال وعاد مرة أخرى لبعض قوته بعدها وقد استطاع أجاويد أن يجمع بين الشخصية الكاريزمائية للقائد والمشروع السياسي الذي اعتمد فيه على الرؤية الاشتراكية بشكل مؤثر حتى سمي أبا الفلاحين أو ابن القرية واستطاع الحصول على تأييد قطاع واسع من الناخبين غير المؤدلجين.
أما التيار القومي فقد يكون هو الحزب الوحيد الذي حافظ على كتلته الصلبة رغم صغر حجمها لوجود شخصية قيادية مثل دولت باهتشلي كانت قادرة على حمل إرث القائد المؤسس ألب أصلان توركيش إلا أنه كما كان في عهد تركش لم يكن الحزب يوما حزب الكتل الشعبية الكبيرة لأنه حزب أيديولوجي مركزي كتلته لديها انتماء قوي إلا أنه فقد جزءا من قوته بعد ظهور الانقسام في الحزب وانفصال جزء مهم من التيار القومي الليبرالي والعلماني في حزب جديد شكلته القيادية السابقة في الحزب ميرال أكشنار.
أما تيار اليمين الوسط أو اليمين الليبرالي إن صح التعبير والذي كان منقسما بين حزبين رئيسين وهما الطريق القويم بقيادة رئيس الجمهورية السابق سليمان دميريل والوطن الأم بقيادة خلفه الرئيس تورغت أوزال ورغم استمرار الحزبين بعد ترك الرجلين دفة القيادة بالانتقال إلى رئاسة الجمهورية في البروز ككتلتين رئيستين في الساحة السياسية إلا أن هذه الكتلة استمرت في التآكل كلما ابتعد الرجلان عن التأثير في أحزابهما حتى اندثرا في بداية الألفية الثالثة وتفرقت قواعدها وقياداتها السياسية بين الأحزاب الأخرى.
وحزب العدالة والتنمية لن يكون بدعا من الأحزاب التركية في هذا السياق فما زال الحزب تشكل فيه شخصية أردوغان وقدرته على التأثير نقطة ارتكاز مهمة في قدرة الحزب على التأثير وتجييش الجماهير و اليوم لا أعتقد أن الحزب سيكون من السهل عليه إيجاد وريث سياسي لأردوغان يستطيع تحمل مسؤولية قيادة الحزب ولديه القدرة على الحفاظ على لحمة الحزب المكون من عدة تيارات فكرية وتجمعات متقاربة يجمعها الفكر والحكم الأمر الذي لا يبدو سهلاً في الواقع الحالي وقد يتعرض بعدها الحزب إن لم يحل هذه المعضلة لانتكاسة تدفعه نحو نفس مصير الأحزاب والتيارات السياسية الأخرى بعد غياب أردوغان عن الساحة لأي سبب كان.
هذا هو واقع الحياة السياسية التركية تظهر فيها أحزاب بمواصفات معينة تلهب وتحرك الجماهير الواسعة بجهد قواعدها المؤمنة بفكرتها وقدرة الشخص القائد على الظهور والتأثير بشخصيته وبرامجه المطروحة فإما أن تستمر الأحزاب بتوريث القيادة المناسبة أو أن الجماهير تحكم عليها بالضعف وتتراجع قوتها وسيطرتها على الساحة حتى تذوب في بوتقة سياسية جديدة.