فلسطين أون لاين

بمحل تراثي و40 سنة يحفظ أصالتها

تقرير خليل حمدان.. "ماكنجي أحذية" مُسن لا يزال وفيًا لمهنته

...
WhatsApp Image 2020-07-22 at 9.22.44 AM (1).jpeg
غزة/ يحيى اليعقوبي:

ارتداد صوت الماكنة إليه وهي تغرز نابها الوحيد بالحقيبة لتعيد إليها "الحياة من جديد" أو تصلح تمزقا فتح ثغرة في الحذاء حتى أصبح ممرا للهواء والرمل وربما أعين سخرية من البعض، هو الصوت الأقرب إليه من كل الأصوات المحيطة به في هذا العالم.

بماكينة وحيدة أصبحت عجوزًا؛ ترفعها طاولة خشبية هي الأخرى تغزوها الشقوق والكسور، تحت سقف قباب أثرية، وعلى الأرض بعض الجلود والحقائب والأحذية، بهذا كله لا زال خليل حمدان (63 عاما) وفيا لمهنة يعمل فيها منذ 40 عاما، ورثها عن والده وورثها لأبنائه.

يحافظ المُسن حمدان على مكان عمله بشكله وهويته وأصالته المتوارثة منذ القدم، في سوق "الزاوية" بمدينة غزة، حجارته الأثرية .. الشقوق التي تأخذ مسارها في سقفه .. شكل القبة المقوس، والذي كان قديما اسطبلا للخيل، وكل ركن يشهد على تاريخ المهنة هنا.

حمدان الذي رفض بشدة التقاط أي صورة له وفضل أن يعرض صورة هذا المحل "التراثي" وماكينته بدلا عنه، استقبلنا بملامح غارقة بالحزن على حال المهنة، إذا لم تعد "خياطة الأحذية" كما كانت سابقا، حتى أن هذه المهنة التي كانت قديمة تستقطب المهرة أصبح يعمل بها أي شخص؛ كما يقول.

التجاعيد التي تستقر على ملامح وجهه تروي حكاية من العمل الشاق، نظارته الطبية تركت بصمتها أسفل عينيه، تقدم حمدان في السن لكنه لا زال متمسكا بمهنته وشد وثائق تعلقه بها إلى حد لا يستطيع مفارقتها رغم تقدمه في العمر.

أصل المهنة

مرر يده على جبينه ماسحا قطرات العرق التي بللته فلا يمكن لمن يلج محله تحمل الرطوبة العالية داخل المكان الأثري ، ونبش في ذاكرته عن أصل "المهنة وفصلها" في حديثه مع صحيفة "فلسطين" قائلا: "أعمل في هذه المهنة منذ أربعين سنة، فحينما كنت طفلا كنت آتي إلى هنا وأساعد والدي في صناعة وخياطة الأحذية، فقديما كان صاحب المهنة يصنع الحذاء بيده ويشكله على طلب الزبون من الجلد الطبيعي، أو يصنع كمية لأحد تجار الأحذية الذي يحضر له النعل فيقوم أبي بخياطته وزخرفته يدويا ومن ثم إعادته والحصول على ثمن أجرته".

كان خياط الأحذية، قديما، يمسك مخرزا وإبرة وخيطا سميكا يشبه خيوط شباك الصيادين، ويغرزه في الحذاء ومن ثم يعاود الكرة مرة وأخرى، مزخرفا شكل الحذاء من الأعلى ثم رابطا النعل بالحذاء، كانت تستغرق هذه العملية مع صاحب حرفة ماهر قرابة نصف ساعة، كما يخبرنا العم حمدان، والآن تأخذ في الماكنة دقيقة واحدة.

يردف: "قديما كانت الخياطة يدويا تحتاج إلى فن ومهارة، ليس كما هي عليه الآن فبشهر يمكن تعلمها".

"قديما كانت محلات الذهب حاليا هي ذاتها لأصحاب مهنة خياطة وصناعة "الأحذية" وكان يسمى صاحب المهنة "ماكنجي" وظلوا محافظين على التواجد في المكان منذ مئات السنين، إذ إن الأحذية كانت مهمة خاصة لقوافل المسافرين الذين كانوا يأتون إلى سوق "القيسارية" أو خان "الغلة" للاستراحة والتجارة". لا زال يروي

  يستعيد بعضا من ذكرياته في العمل مع والده: "حينما أرجع من المدرسة كنت آتي إلى والدي لمساعدته، في لصق الحذاء، أو خياطته، أو احضار الطعام، وكانت هناك حركة كبيرة على صناعة وخياطة الأحذية، فمثلا كان يأتي لأبي نحو عشرة أو عشرين زوجا من الأحذية لصناعتها ويعمل بها طوال الأسبوع، ثم يعيدها إلى "القيسارية" لبيعها وكان أكثر أغنياء غزة يشترونها، أما الآن وضع المهنة صعب خاصة أنها تعيل 22 فردا".

ضرب كفيه ببعضهما: "الله يعلم كيف الواحد ساتر حاله".

 

مفتاح .. قديم جديد

في أعلى سقف المحل المقوس، يعلق مفتاحا بحجم كفة اليد ، يخبرك حمدان عن قصته: "هذا مفتاح المحل حاليا، اشتريناه قبل أربعين عاما من مدينة الخليل ولا زال يعمل وأغلق وأفتح به المحل".

يبتسم بهدوء: " ولكن أقوى من مفاتيح اليوم".

تفسد الرطوبة العالية هنا شكل المحل التراثي، إذ تركت أثرها وبقعها على السقف، والجدران، وكل ركن فيه، حتى أنك لا تستطيع تحمل الجلوس داخله لعشر دقائق، لكن حمدان يواصل تحملها ثماني ساعات يوميا منذ 40 عاما.

يعود للحديث عن قدم المهنة مفصلا أكثر: "كنا نعمل قديما في سوق "القيسارية" ولكن في سبعينات القرن الماضي بعدما تحول السوق لبيع الذهب، خرجنا إلى هنا أمام بوابة مسجد العمري، قديما كانت الجلود طبيعية والحذاء يصمد في قدم الرجل لخمس سنوات، وهو بخلاف أحذية اليوم فهي خفيفة وتصنع من الشمع ولا تستمر في القدم أكثر من ثلاثة أشهر حتى يتم رميها، رغم أنه لا زال موجودا أحذية بجلود طبيعية لكن أسعارها باهظة".

"في عهد والدي كان الإقبال كبيرا من الناس على "ماكنجي الأحذية، لأن كل شخص كان يأتيه ويطلب منه تفصيل حذاء وصناعته كما يريد، وكانت الأحذية المنتشرة ذات المقدمة الرفيعة وهي اليوم أصبحت من الموضة" .. قالها بعد أن أخرج ضحكة تتسم بالسخرية شيئا ما.

يزيد في كلامه: "صناعة وخياطة الأحذية كان من يعمل بها يجب أن يكون ماهرا، يصنع حذاء قابلا للبيع، وحتى أن الخيط يكون سميكا وقويا بخلاف خيوط اليوم".

ماذا تمثل لك  المهنة!؟ "مهنة مثل الحدادة والنجارة" كان رده سريعا: "ارتبطت فيها لأنها المهنة الوحيدة التي تعلمتها وأكملت فيها وعلمت أولادي عليها، لكن ثمن تصليح الحذاء هو نفسه لم يتغير قديما كنا نأخذ من الزبون نحو نصف ليرة، تساوي 2 شيكل والتي نحصل عليها اليوم".

 

 

المصدر / فلسطين أون لاين