خطاب التحريض العلني أو الضمني على الإخوة الفلسطينيين والسوريين، كما خطاب التحريض الطائفي والمذهبي ضد هذا المكوّن اللبناني أو ذاك، ليس مرفوضاً لأسباب وطنية وقومية وأخلاقية وإنسانية فحسب، بل هو مرفوض لأسباب تتصل بالاستقرار اللبناني، والاقتصاد اللبناني، أو ما تبقّى من اقتصاد لبناني.
فالتحريض على أي جماعة لبنانية أو مقيمة في لبنان، يؤدي إلى إثارة مخاوف وهواجس عدّة تشكل بدورها التربة الخصبة لأي مشروع فتنوي أو إرهابي أو تقسيمي يهدد البلاد، بل إنّ التحريض نفسه هو عامل التفجير الأساس الذي دفع لبنان، بأبنائه والمقيمين على أرضه أبهظ الأثمان بسببه.
فالجميع يعلم أنّ الفلسطينيين موجودون في لبنان، بغير إرادتهم، وأنهم يناضلون منذ عشرات السنين، ويقدّمون الشهداء بعشرات الآلاف، من أجل العودة إلى بلادهم، وما من أمر يعيق عودتهم إلى بلادهم سوى إدخالهم في حروب مع الشعوب المضيفة التي من المفترض أن تخوض إلى جانبهم معركة العودة والتحرير.
إسقاط التوطين، الذي نصّ الدستور اللبناني في مقدمته على رفضه، معركة مشتركة بين اللبناني الذي لا يتحمل وجود هذا العدد البشري على أرضه المحدودة المساحة، والمحكومة بجملة اعتبارات معقّدة، والفلسطيني الذي يؤكد، ولو كان يقيم في أغنى بلدان العالم، أن لا أرض عنده أغلى من أرض فلسطين، ولا وطن أعز من الوطن الفلسطيني... ولا كرامة له إلا في وطنه الأم.
فهل التحريض بين يوم وآخر ضد الفلسطيني يؤدي إلى مقاومة التوطين، أم أنه يسهّل من خلال الفتنة تحقيق مشروع التوطين نفسه، وقد قلت في بداية التسعينيات من هذا القرن في ندوة عقدها «المنتدى القومي العربي» في «دار الندوة»، إنّ «فتنة التوطين تؤدي إلى توطين الفتنة»، ولعلّ ما شهدناه في لبنان من حرب فتنوية امتدت أكثر من 15 عاماً، هو أكبر دليل على عبثية هذا التحريض وخطورته التفجيرية.
ولن ندخل هنا في تعداد إسهامات الإخوة الفلسطينيين «اللبنانية»، على صعيد العلم والثقافة والإبداع والاقتصاد والأعمال، ومساهمتهم عبر العاملين من أبنائهم في الخارج بإرسال تحويلات مالية كبيرة كانت أحد موارد لبنان من العملة الصعبة، فلقد كانت مقالة الأستاذ طلال سلمان «الفلسطينيون جوهرة الشرق الأوسط» رائعة في إبراز دور الفلسطينيين في النهضة اللبنانية العامة خير معبّر عن هذه الحقائق.
أما الإخوة السوريون، فهم أيضاً ضحايا حرب كونية لعينة استهدفت بلدهم، ودمّرت دولتهم، وحاصرت دور وطنهم وموقعه التاريخي والجغرافي معاً، وهم كانوا دائماً شركاء مع اللبنانيين في مراحل نهوضهم، سواء كعمال كادحين أو كمتمولين كبار، كما أن سوريا كانت تفتح ذراعيها لكل لبناني، وإلى أي جماعة انتمى، ممن كانت ظروف صعبة تدفعه إلى مغادرة بيته لأشهر أو سنوات.
وبدلاً من أن نكتفي بالحديث عن العبء الذي يشكّله وجودهم في لبنان، وهو بالتأكيد عبء حقيقي رغم المليارات من الدولارات التي دخلت إلى الخزينة من الخارج لإغاثتهم، يجب أن نسعى لوضع اليد مع الحكومة السورية لتأمين العودة الآمنة والكريمة لهم، وخاصة أنّ بلادهم الحمد لله قد نجحت في إعادة الأمن إلى الجزء الأكبر من ربوعها، وأن نضغط بكل الوسائل على القوى الخارجية، وهي معروفة للجميع، وفي مقدمها الولايات المتحدة وأدواتها، والتي تحول دون عودتهم إلى بلادهم في محاولة منها لاستخدامهم في أجندات «مواصلة الحرب» على سوريا بأشكال جديدة، وزعزعة الاستقرار فيها، وهناك أكثر من سيناريو يتم تداوله بهذا الصدد.
ثم ألا يدرك أصحاب الخطاب التحريضي، على اختلاف مواقعهم، أنهم يزرعون أحقاداً بين شعوب تربطها عبر القرون وشائج قربى وروابط أخوّة، ومصالح مشتركة، فتعيش المنطقة بأسرها أجواء توتر دائم وتفجّر مستمر، يكون لبنان ضحيتها الأولى، ولا سيما أن بوابته إلى العمق العربي والإقليمي هي البوابة السورية، وأن مطامع العدو الصهيوني في أرضه وكيانه ونفطه ليست خافية على أحد.
إلا أنّ أخطر ما في الخطاب التحريضي، المنتشر هنا وهناك، هو حين يساوي أصحابه بين الوجود المدني الفلسطيني والسوري، وهو وجود اضطراري كما يعرف الجميع، وبين الاحتلال الإسرائيلي والمشروع الإرهابي التدميري، وكلاهما ثمرة مشروع أكبر يستهدف وحدة مجتمعنا، واستقرار بلادنا، وتدمير مقوّمات نهوضنا.
وهذا الخطاب الذي لا يميز بين الجلاد والضحية هو كما يعرف الجميع، خطاب غير أخلاقي وغير إنساني، وغير عادل في الوقت نفسه.
أما الذين يعتقدون أن الخطاب التحريضي، طائفياً كان أم مذهبياً أم عنصرياً، قد يحقق لهم مكاسب سياسية أو انتخابية، مشابهة لما كان يحصل في السابق، فهم مخطئون جداً، لأن ظروف اليوم هي غير ظروف الأمس، علماً بأن نتائج خطاب الأمس التحريضي لم تأت سوى بالوبال على لبنان وعلى أصحاب هذا الخطاب نفسه... وعلى الجماعات التي يدّعون حمايتها.
من المعروف أن «أول الحرب كلام»، وأن من يطلق كلامه على عواهنه إرضاء لعصبية أو غريزة أو جماعة، إنما يسيء إلى نفسه أولاً وإلى الجماعة التي ينتمي إليها ثانياً، وإلى وطننا الغالي لبنان دائماً. قليلاً من التبصّر يا أولي الألباب، فالتبصّر وحده طريقنا لمنع التفجّر.