إذا كانت الولايات المتحدة وإسرائيل هما وراء الهجمات الغامضة التي أدت إلى التفجيرات التي طاولت مواقع إيرانية حساسة أخيرًا، فإن نجاحهما في استهداف هذه المواقع يعد ثمرة محاولاتٍ قديمةٍ، وانتصارا لاتجاه الاستهداف السيبراني على الحربي المباشر.
ولمّا كانت خطط الاستهداف على طاولة البحث الأميركي والإسرائيلي قبل أكثر من 15 سنة، وتناقشها أجهزة الاستخبارات في البلدين معاً، أو كلٌّ على حدةٍ، يمكن القول إن الهجمات بدأت وربما لن تنتهي، حتى يتأكد لهذه الأجهزة أنها تمكّنت من برنامجي إيران النووي والصاروخي، وتتركان الإيرانيين في تخبُّطٍ، ليس للوصول إلى الفاعل، وحسم كيفية الرد عليه، بقدر ما هو تدارك الموقف ووقف الهجمات.
ويأتي غموض الهجمات التي أدت إلى التفجيرات المتتالية، وطاولت مواقع عسكرية ومدنية إيرانية حساسة، منذ 26 يونيو/ حزيران الماضي، من عدم تبني أحدٍ لها، خصوصاً الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، ومن عدم اتهام إيران أيّاً منهما، أو طرفاً ثالثاً، بمسؤوليته عنها، وكذلك بعدم الكلام التفصيلي عن حجم الأضرار التي سببتها.
ويعطي هذا الغموض الفرصة للتكهنات وتوقعات استمرارها وحجم الرد الإيراني المفترض، إذا عُرف الفاعل. غير أن أهمية المواقع المستهدفة وحساسيتها بالنسبة لإيران، خصوصاً منها موقع تصنيع الصواريخ الباليستية في بارشين، شرق طهران، ومفاعل نطنز النووي، ترجِّح مسؤولية أميركا وإسرائيل، وهما اللتان كانتا تهدّدان على الدوام وعلناً بنية ضرب البرنامجين النووي والصاروخي الإيرانيين، حين كان الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش الابن، في البيت الأبيض.
تعود فكرة توجيه ضربة إلى إيران إلى سنة 2005، حين أعلن نائب الرئيس الأميركي، ديك تشيني، قائلاً: "بما أن إيران حددت ضمن سياستها هدف تدمير إسرائيل، فقد يقرّر الإسرائيليون أخذ زمام المبادرة وتوجيه ضربة لها". لكن قبل نهاية ولاية الرئيس بوش، سنة 2008، كان الإسرائيليون في سباقِ محمومٍ مع الزمن لتوجيه ضربة عسكرية للبرنامجين الصاروخي والنووي الإيرانيين قبل خروجه من البيت الأبيض، لأنهم توقعوا أن لدى خلفه المرشح باراك أوباما، نيات للتفاوض مع إيران بدلاً من مواجهتها. وجرى النقاش طويلاً بين مسؤولي الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي حول كيفية المواجهة. وكانت المفاضلة تجري دائماً بين الضربة العسكرية المباشرة التي ستتطلب حجم قوات كبيراً هدفها إسقاط النظام الإيراني، قد تتولد عنها حرب شاملة تطاول دول المنطقة وتهدّد القواعد الأميركية في العراق وأفغانستان والخليج، أو توجيه هجمات سيبرانية تعيق البرنامج النووي الإيراني، وتكون مصحوبة بتفجيرات ينفذها عملاء داخل إيران، وتكون محدودة الأثر من جهة الأرواح، لكن كبيرة الأثر من ناحية الخسائر المادية.
أما الآن، ومع قرب نهاية ولاية الرئيس دونالد ترامب، واحتمال خسارته أمام الديمقراطي جو بايدن، الذي يؤيد العودة إلى العمل بالاتفاق النووي بين إيران والمجموعة الدولية الذي وقِّع سنة 2015، ما يخفف التوتر في المنطقة، ويمنع حدوث مواجهة مع إيران، أو توجيه ضربة عسكرية إليها، ربما أراد الإسرائيليون استباق الزمن من جديد وتوجيه هذه الضربة بالتعاون مع أميركا قبل خروج ترامب من البيت الأبيض.
ومع الأخذ بالاعتبار تداعيات العملية العسكرية، سواء الإسرائيلية عبر توجيه ضربة جوية، مستخدمة القواعد الأميركية في العراق، أو الحرب المباشرة بين أميركا وإيران، واحتمال أن تطاول المنطقة برمتها، ربما انتصر خيار الضربة السيبرانية وزرع قنابل عبر عملاء داخل إيران على خيار الضربة المباشرة. ويؤيد هذا الاحتمال إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في إبريل/ نيسان 2018، عن حصول الاستخبارات الإسرائيلية على وثائق تثبت أن لدى إيران برنامجاً لتصنيع سلاحٍ نووي. ولمَّح نتنياهو يومها إلى نيته اتخاذ تلك الوثائق مبرّراً لضرب منشآت إيران النووية.
لذلك، يمكن إدراج هذه التفجيرات ضمن سياق التهديدات الإسرائيلية والأميركية بتوجيه الضربة، وربما تحميلهما المسؤولية عنها، على الرغم من عدم اعترافهما رسمياً بمسؤوليتهما عن الهجمات. وبما أنها بدأت، ليس هنالك ما يؤكّد ما إذا كانت ستقف عند هذا الحد، أم ستكمل بعد تحقيقها النجاحات وبعد اتضاح عدم قدرة إيران على مواجهتها. ويبرز السؤال عما إذا كانت التفجيرات من القوة بحيث تستطيع إعاقة البرنامجين النووي والصاروخي، فحسب، أم ستكمل لتطاول أهدافاً مدنيةً تؤدي إلى كوارث وخراب اقتصادي يكون الغرض منه زيادة أزمة البلاد الاقتصادية، وصولاً إلى إسقاط النظام؟
مؤكد أن الخسائر التي سببتها الهجمات كانت من الضخامة إلى درجة أنها دفعت الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية إلى التأكيد على أن الضرر الذي أصاب مفاعل نطنز كان ضخماً. وأكدت ذلك صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، قبل أيام، نقلاً عن مسؤولين بالاستخبارات، أن هذا المفاعل لن يعود إلى الخدمة قبل سنتين ستحتاجهما إيران لإصلاح الأضرار. وقد اتفق ثلاثة كتاب في مقالة نشروها في الصحيفة، في 10 يوليو/ تموز الجاري، على أن الضربة مقرّرة من فترة، ومتفقٌ على خطط تنفيذها. لذلك يمكن أن تغري النجاحات الفاعلين بالاستمرار في تنفيذ خططهم، وضرب مزيد من الأهداف، مستندين إلى عدم قدرة إيران على الرد قبل تأكدها من هوية المنفذين، وربما عدم نيتها الرد، كما كان شأنها مع الضربات الجوية الإسرائيلية التي طاولتها في سورية، وكما يُفهم من كلام المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني عن معرفتهم سبب التفجيرات في نطنز، لكنهم لا يستطيعون الكشف عنه "لأسبابٍ أمنيةٍ".
يؤكّد تتالي الضربات وتنوعها أن لدى منفذها خطط ينفذها، وتهدف إلى دبّ الفوضى في إيران، وتشتيت أصحاب القرار ووضعهم في موقفٍ حرج، لا يستطيعون معه فعل ما يردّ هذه الضربات. وإذا كانت أميركا والكيان الإسرائيلي هما من يقف خلف التفجيرات، يمكن القول إن مخططهما القديم لاستهداف إيران وبرامجها العسكرية قد أخذ طريقه إلى التنفيذ وفقَ الجدول الذي وضعتاه. كما يمكن القول إنهما قد تمكنتا من إيران بطريقة أسهل مما توقعتا، تشير إلى ذلك حساسية المواقع المستهدفة، وأهميتها على الصعيدين العسكري والاستراتيجي.
أما إذا لم تستطع إيران ردعهما، أو توجيه ضربات انتقامية إليهما، فمن الممكن استمرارهما للوصول، ربما، إلى مرحلةٍ يصبح النظام فيها عاجزاً، ويسهل عليهما إسقاطه في حال كانت تلك هي خطتهما النهائية.