الدماء التي تنزف في ساحات المعارك ليست ملكاً لأصحابها، وإنما ملك لكل الشعب الذي يخوض حربه ضد عدوه بكل ما يملك من حياة، وفي المعارك الوطنية لا يلتفت المصاب إلى نفسه، ولا يتحسس جراحه، وإنما ينظر إلى من حوله، ويتابع مجرى الأحداث، ويهتم بنتائج المعركة التي يخوض غمارها.
لقد واجه الشعب الفلسطيني عدوه قبل ثورة 1936 بسنوات، وأثناء معارك 1948، وما بعدها، ومع انطلاقة الثورة الفلسطينية 1965، وما بعدها من معارك حتى انتفاضة الحجارة 1987، ومن ثم انتفاضة الأقصى، وحتى يومنا هذا، فالتضحية قدر الشعب الفلسطيني الذي ابتلي بالصهيونية، وصارت المواجهة جزءاً من شخصيته الوطنية.
لقد مثلت انتفاضة الحجارة 1987 حدثاً وطنياً بمعنى الكلمة، وقلبت موازين القوى على الأرض، ومارس الشباب الفلسطيني فعل المقاومة باندفاع وبراءة ومصداقية وانتماء، ونفذوا بدقة الأوامر والتعليمات التي صدرت إليهم من قياداتهم في الخارج، وقاموا بتنفيذ عملياتهم النضالية ضد المستوطنين الصهاينة وضد العملاء وفق توجيهات قياداتهم، وقد عبرت سنوات طويلة على مناضلي تلك المرحلة، فمنهم قضى نحبه، ومنهم من لا يزال خلف القضبان، ومنهم من تحرر من الأسر وشاغلته الدنيا بهمومها، ومنهم من لا يزال يمضغ ذكرياته بمرارة وأمل.
ولا ينكر عاقل أن لكل مرحلة نضالية من عمر الشعب الفلسطيني إيجابيات وسلبيات، والشعوب في تقييم تجاربها تأخذ بالإيجابيات وتطورها، وتتفادى السلبيات، وتحاول أن تعالجها، فإن لم تستطع، فإنها تحاول أن تدفنها أو تتجاوزها، أو تنساها، ولاسيما إذا كانت متعلقة بالأشخاص، فالأحداث الوطنية التي تجري ليست فردية، ولا يتحمل مسؤولية الخطأ فيها شخص بعينه، وإنما تقع المسؤولية على صاحب القرار الذي اجتهد في حينه وفق ما توفر لديه من معلومات.
لقد صدمت فلسطين كلها بالاعتداء على المناضل جبر القيق في قطاع غزة، والذي شارك في انتفاضة الحجارة قبل ثلاثين عاماً، ونفذ أوامر القيادة بدقة، لقد جاء الاعتداء على القيق في الزمن الذي يصطف فيه الشعب الفلسطيني خلف قضيته الوطنية، وخلف موقف موحد من الضم، وخلف موقف موحد من العملاء بشكل عام، فالشعب الفلسطيني قد يغفر كل الذنوب إلا ذنب من خان الوطن، وتآمر عليه، ووضع يده في يد عدوه، وإذا كان هنالك مظلوم، أو بريء تمت تصفيته أثناء انتفاضة الحجارة أو بعدها، فإن المراجعة واجبة، والمساءلة التنظيمية حق أولياء الدم، فالشهيد جبر القيق ليس الأول، وليس الآخر، وهناك العشرات بل المئات من المناضلين القدامى هم شركاء جبر القيق في مثل المهمة التي نفذوها بأوامر من قياداتهم.
الاعتداء على جبر القيق لا يخص عائلة القيق وحدها، ولا يخص تنظيماً بعينه، ولا يخص محافظة رفح، وإنما يخص كل الشعب الفلسطيني، وهو صاحب الحق في محاسبة المجرم وفق القانون، مع التأكيد على أن نبش الماضي، وفتح الجرح بعد عشرات السنين أمر مشين، يستنكره الشعب الفلسطيني بكل أطيافه السياسية والمجتمعية، وقد استنكره شيوخ عشائر الترابين، الذين نجلهم ونقدرهم ونعتز بموقفهم الشجاع من الجريمة، وقد رفضوا العبث بالاستقرار الأمني في قطاع غزة، ورفضوا أخذ القانون باليد، فنحن مجتمع مترابط الأطراف، متشابك المصالح، لا مجال فيه للانفلات، أو اختراق القانون.
ملحوظة: التقيت في غرفتي بسجن نفحة الصحراوي مع عشرات السجناء من غزة والضفة الغربية؛ المتهمين بتصفية العملاء، وقد اعترف جميعهم بأن لا عداوة شخصية بينهم وبين العميل، وإنما جاءهم أمر القيادة بتصفيته، فنفذوا المهمة بدقة.