ضج الإعلام العالمي والعربي ولا شك قبلهما الإعلام التركي بقضية إعادة آيا صوفيا جامعًا بعد أن حول نحو تسعين عامًا إلى متحف، فهل كان هذا القرار قرارًا سياسيًّا مصلحيًّا للحزب الحاكم في تركيا أم أنه قرار تاريخي جاء تتويجًا لمراحل طويلة من الجهد والتجهيز السياسي والشعبي في تركيا استمرت منذ وصول حزب العدالة والتنمية للحكم؟
قبل الخوض في تحليل هذا الأمر من الأولى توضيح ملخص الحدث لتكون الصورة أوضح لدى القارئ الكريم.
فقد صدر بالإجماع يوم الخميس الماضي في العاشر من شهر تموز قرار الدائرة العاشرة في المحكمة الإدارية العليا في تركيا، القاضي بإلغاء مشروعية قرار مجلس الوزراء التركي المؤرخ بتاريخ 24/11/1934م، الذي منع استخدام جامع آيا صوفيا مسجدًا وحُوّل إلى متحف ومزار سياحي، مع أنه استخدم مسجدًا منذ عام 1453م حين فتحت إسطنبول حتى تاريخ القرار المذكور، وكان قرار المحكمة ناتجًا عن قضية رفعتها جمعية الخدمة الدائمة للأوقاف والآثار والبيئة التركية ضد رئاسة الجمهورية، وبناء عليه اتخذ رئيس الجمهورية قراره بتحويل صلاحيات المسجد من وزارة السياحة إلى رئاسة الشؤون الدينية لكونها الجهة المخولة الإشراف على المساجد في تركيا.
هل الأمر وليد اللحظة؟
لقد لفت الانتباه تأييد أردوغان والعدالة والتنمية القرار تأييدًا واسعًا، مع أنهم لم يتحركوا في السنوات السابقة حتى عام 2019م في الأمر، وكانوا في الحكومة منذ عام 2002م، ولكن العارف بتفاصيل الواقع السياسي التركي يعرف أن بعض الأمور لا تجري هنا بناء على منظومة الحق والقانون، بل أحيانًا تكون الاستطاعة والظروف المحيطة الداخلية أكثر تأثيرًا من ذلك بكثير، وقد تردد كثيرًا منذ ساعة اتخاذ القرار في الإعلام الحديث عن أن أردوغان عارض المطالبة بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد قبل سنة، وهذا فيه لغط كبير، فحديث أردوغان هذا كان في يوم 19 مارس 2019م وبالنص: "لا تنجروا إلى هذه اللعبة، هذه كلها خداع، نحن نعلم جيدًا متى وكيف نفعل ما نريد، نحن لا نتخذ خطوات لأن هؤلاء المخادعين قالوا ذلك, كل شيء له حسابات سياسية وأثمان، بعض الأشياء تفعل ولا تقال، نحن بدأنا تخصيص جزء منه مسجدًا، وأقمنا نشاطًا وتلونًا في داخله القرآن"، ثم بعد هذا الحديث بستة أيام فقط أي في يوم 25 مارس 2019م قال أردوغان في خطاب جماهيري له في مدينة طرابزون: "بعد الانتخابات سنعيد آيا صوفيا إلى أصله، وسنخرجه من كونه متحفًا إلى جامعًا ويصبح اسمًا على مسمى"، أي أن الموقف لم يكن رفضًا للأمر بل محاولة لمنع التشويش على ما يخطط له الحزب منذ سنوات، علمًا بأن القضية مرفوعة من الوقف المذكور منذ أكتوبر من عام 2016م، ومن المعروف لدى حزب العدالة والتنمية وقواعده أن موضوع آيا صوفيا هو أمر مبدئي، لكن قرارًا من هذا النوع إن اتخذ في التوقيت أو بالطريقة غير المناسبين فقد تكون عواقبه وخيمة على الحزب والسياسة التركية، وعلى الديمقراطية التركية، ومشروع الإصلاح السياسي الذي قاده الحزب منذ تأسيسه.
لماذا استخدم القضاء في قرار وزاري تنفيذي؟
هناك دافعان أساسيان لإشراك القضاء في هذا القرار الإداري: أحدهما محلي والآخر دولي, أما المحلي -وهو الأهم- فيحتوي على جزئيتين مهمتين:
الأولى أن القرار الأول صدر عن مجلس وزراء معين من مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك ويحمل توقيعه رئيس جمهورية؛ فليس من السهل أن يلغى قرار يحمل هذه الصفة المعنوية بقرار معاكس من المستوى نفسه؛ فكان لا بد من إشراك القضاء فيه لزيادة المشروعية لأي قرار ضده، والجزئية الثانية هي أن القضاء لم يتخذ قرارًا بأحقية تحويل المتحف إلى مسجد بل ببطلان القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء عام 1934م، وبهذا يقطع الطريق على أي حكومة قادمة إلى اتخاذ قرار معاكس لإعادة المسجد إلى متحف استنادًا لقرار يحمل توقيع مصطفى كمال أتاتورك ومجلس وزرائه، بالمناسبة قالت الجهة المدعية في فحوى قضيتها إن التوقيع مزور حتى إن عددًا من الوزراء الموقعين لم يحضروا جلسة مجلس الوزراء تلك (أي يطعنون بمصداقية وثيقة القرار)، لكن المجلس الأعلى في المحكمة الإدارية لمعرفته بحساسية القضية لم يفتح قضية تزوير التوقيع وعدها قضية غير مستوفية الأدلة، مع أن عددًا لا يستهان به من الخبراء التاريخيين أكدوا مصداقية كلام الجهة المدعية.
أما على الصعيد الدولي فهي محاولة من الحكومة لتدعيم موقفها أمام العالم بأن القرار فيه موقف قضائي وليس قرارًا من الجهات السياسية والتنفيذية فقط، خاصة في مواجهة الغرب، وعلى رأسه أمريكا التي استخدمت حجة استقلالية القضاء في العديد من الملفات التي تمس الأمن القومي والمصالح العليا التركية.
توقيت القرار
قد يرى بعض أن القرار جاء متأخرًا، وأنه كان بالإمكان اتخاذه في أي موعد سابق، ولكن الحقيقة أن كثيرًا من القرارات المصيرية التي تمس البعد الديني والعقدي في تركيا -وخاصة التي ضد موروثات الكمالية المتطرفة في تركيا- أخذت الكثير من الوقت في تحضير الشارع أو اقتناص الفرص أو مواتاة الظروف الداخلية والخارجية لها، فعلى سبيل المثال لم يتحرك الحزب لرفع الحظر عن الحجاب إلا في شباط من عام 2011م، وفي الجامعات فقط، ثم في عام 2014م سمح به في المدارس الثانوية والإعدادية، رغم وجود العدالة والتنمية في الحكم من 2003م، علمًا بأن محاولته الأولى لرفع حظر الحجاب عام 2007م والسماح به لبعض الممرضات والموظفات الإداريات في بعض المستشفيات، وكذلك حديث أردوغان وغول ووزير التعليم حسين تشيليك عن الحرية الدينية كانت كلها عناصر في قضية رفعت لإغلاق الحزب عام 2008م، أي أن الحزب لو تجرأ على هذه الخطوة في حينه لم يكن ليستطيع أن يبقى في الحكم، بل إنه كان سيتسبب في إنهاء حياة الحزب وقيادته السياسية إن لم يكن أكثر عام 2002م، إضافة إلى هذا إن الحزب حتى محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز (يوليو) من عام 2016م لم يكن لديه السيطرة على مفاصل الدولة بالمستوى القائم حتى يستطيع اتخاذ هذه القرارت المصيرية في تاريخ تركيا الحديث.
أما ما أخذ على الحزب فأنه خلال الشهر الماضي عارض مطالبات للحزب الجيد بتشكيل لجنة برلمانية لدراسة وضع مسجد آيا صوفيا؛ فقد رفضها حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية، لأن الأمر كان بانتظار قرار القضاء، وأن مقترح تشكيل لجنة للتحقيق هو طرح غير منطقي ومتأخر عن الخطوات التي تقوم بها الحكومة، حسب رد نائب رئيس اللجنة البرلمانية الحزب محمد أمين أكباش أوغلو.
هل القرار مسيس؟
القرار المسيس هو القرار الذي يجافي الحقيقة ويتخذ فقط لأهداف سياسية غير عادلة، وعادة ما يطلق على القرارات المجحفة بحق أطراف محلية أو خارجية، وهذا ما لا يمكن أن ينطبق على قرار مثل قرار آيا صوفيا، ولكن -لا شك- لا يمكن أن يكون هناك حزب سياسي عاقل لا يسعى إلى مكاسب سياسية من أي قرار أو إجراء يتخذه، كيف لا وهو الذي يتحمل عواقب هذه القرارات ويدفع أثمان أخطائه، إن حدثت؟!، وهذا القرار المصيري والتاريخي الذي ينتظره الغالبية العظمى من الشعب التركي هو من أهم القرارات التي يمكن أن يسعى حزب سياسي للاستفادة منها شعبيًّا وسياسيًّا.
وفي الوقت نفسه أعتقد أن اتخاذ أردوغان هذا القرار في هذا التوقيت قد يؤثر إيجابًا على محاولات الحزب لاستعادة بعض الفئات التي كانت تناصر الحزب وابتعدت عنه في الآونة الأخيرة، وكذلك يمكن أن يسهل في كسر الجمود في العلاقة بين الحزب الحاكم وحزب السعادة ذي التوجه الإسلامي الأيدلوجي أو قواعده، خاصة بعد أن تحولت النسب الصغيرة إلى قوة في تأثيرها على النتائج النهائية في الانتخابات، ولما كان حزب المعارضة الرئيس يحاول استمالة جميع الأطراف السياسية لتشكيل كتلة واحدة في وجه حزب العدالة والتنمية، حتى إنه من أجل التقرب من القواعد الشعبية للأحزاب المحافظة تخلى عن العديد من مواقفه وآرائه السياسية والفكرية العلمانية المتطرفة، وناقض مواقف له مسبقة كان يعدها من المسلمات كالحجاب والتدين.
وكذلك إن أردوغان وحزبه يحاولون إيصال رسالة للناخب القومي والمحافظ لتقوية لحمة قواعده واستقطاب من لا يؤيده من هذا التيار الشعبي العريض، أنهم هم الجهة الوحيدة القادرة على تحدي القوى الدولية، واتخاذ قرارات مصيرية من هذا النوع دون التراجع أمام ردات الفعل الخارجية.
وبناء عليه إن اتخاذ هذا القرار التاريخي الذي حمل في طياته مظهر السيادة التركية وقوة الدولة وانتظره التيار الغالب في الشارع التركي جاء بعد سنوات من الجهد والتخطيط من حزب العدالة والتنمية، الذي كان يواجه هجمات كبيرة أوشكت بعضها أن تفضي إلى إغلاق الحزب وإنهاء حياته السياسية، وقد تكون هذه الخطوات أيضًا هي أحد أهم الأسباب التي حركت المياه الراكدة أحيانًا في المؤسسة العسكرية عدة مرات حتى الانقلاب الفاشل في 2016م، وحُمِي القرار من قرارات معاكسة بقرار قضائي يبطل السند السياسي لأي قرار معاكس.