أخيرا ذاب ثلج وعد رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بنيامين نتنياهو، بشأن ضم الأغوار الفلسطينية والكتل الاستيطانية، ليبقى المرج التهويدي بسردياته الزائفة على حاله، على امتداد كامل مساحة الوطن الفلسطيني، وحتى لو جرى تأجيل ذلك، فهذا لن يغير من طبيعة عملية الضم، واستمرار أعمال التهويد الاستيطاني على قاعدة تهويد المكان، قضما وهضما وضمّا، بما يحفظ لأغراض الاستيطان الاستعماري غاياته ومآلاته المحدَّدة في المشروع الصهيوني، منذ بداياته الأولى، لاجتياح الأرض الفلسطينية واحتلالها على دفعات، ما تني تتواصل بأشكال وأساليب متعدّدة.
لا تعني خطوة التأجيل غض النظر عما اتفق عليه نتنياهو والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وكما في خطة الصفقة بينهما، ربما هي خطوة اضطرارية تكتيكية، لا يُراد لها أن تُفشل ما يخطّط له الطرفان بشكل أحادي أو مشتركيْن، على أعتاب معركة رئاسية يريد ترامب الفوز فيها، في حين يسعى نتنياهو إلى محاولة إنقاذ وضعه المتدهور، للحفاظ على مستقبله السياسي، والاحتفاظ بموقعه، ولا سيما إزاء خصمه في حزب أزرق أبيض (كاحول لفان)، بيني غانتس، عبر إزاحته وعدم السماح له بالصعود إلى منصة رئاسة الوزراء، بحسب الاتفاق الاضطراري بينهما، حتى لو أدّى الأمر إلى فتح معركة انتخابية جديدة، يأمل من خلالها نتنياهو بالحصول على غالبية برلمانية مريحة، لا تجعله مضطرًا للتحالف مع أي طرفٍ آخر. ومن جهة أخرى، يحاول الهروب من مسلسل محاكماته في قضايا فساد ورشى عديدة متهم بها، ويمكن لها أن تدخله السجن.
على أن خطوة التأجيل ربما جاءت ولأول مرة نتاج ضغوط داخلية، وعدم وجود إجماع على خطوة من هذا القبيل، كما جرَّاء تباينات مع الإدارة الأمريكية، وهي تتخبّط في وحل سياسات شعبوية فاشية، وتغرق في مستنقعات العنصرية، ولا تجد لها ملاذًا من فيروس كورونا، في وقتٍ يطمع ترامب بالفوز بتريليونات الدولارات ثمنا للقاحات تسابق مختبراته الزمن من أجل التوصل إلى تلك "الخلطة العجيبة"، التي قد تصح أو لا تصح في مواجهة الفيروس المستجد. وهذا كله في وقت يشهد اتفاق قوى ومواقف رسمية وشعبية وإعلامية عالمية عديدة، رأت وترى في انحياز الرئيس الأمريكي لإسرائيل وحكومتها اليمينية المتطرّفة إضرارا بالمواقف السياسية الرسمية لأطرافٍ عديدة في المجتمع الدولي، متعاطفة مع الفلسطينيين وحقوقهم، جرّاء الإمعان الإسرائيلي/ الأمريكي في تجاهل متطلبات ما يزعمونها "خطة السلام والازدهار"، المسمّاة إعلاميا صفقة القرن.
فلسطينيا، وعلى هامش محاولات تنفيذ مشروع الضم، أظهر استطلاع للرأي أن غالبية المستطلعين من الفلسطينيين لم يروا في إعلان حركتي فتح وحماس توحيد جهودهما للتصدّي لمخطط الضم، أن في وسعه أن يكون مقدّمة لإنهاء الانقسام والوحدة وطنيا في مواجهة مخططات الاحتلال. وبحسب الاستطلاع الذي نشرته صحيفة القدس المحلية، لم ير 67% من المستطلعين في اللقاء بين قياديين في الحركتين خطوة إيجابية، بينما أظهر 33% من المستطلعين تفاؤلهم حياله.
عموما، وعلى الصعيد الإسرائيلي، لا يوجد إجماع على موضوع الضم، إذ تعارضه شخصيات يعتد بخبراتها الأمنية والعسكرية ومواقفها السياسية والفكرية والأيديولوجية، إضافة إلى قادة سابقين للمخابرات (الموساد). وقد لعب بروز دور للجيش والمؤسسة الأمنية في هذا الأمر أدوارا لا يستهان بها في التأثير على قرار نتنياهو، حتى أن رئيس الوزراء السابق، اليميني ومجرم الحرب إيهود أولمرت، ذهب بعيدا في توصيف أنماط سلوك القيادة والحكومة في (إسرائيل) كونها باتت دولة فاشية، في مقال نشرته باسمه صحيفة جيروزاليم بوست، وفيه: إن "براعم" شجرة الفاشية في إسرائيل "لم تتجاوز فقط مرحلة الحضانة، ولم تكتف بدفع جذورها في أعماق المجتمع، بل إن أغصانها تنتشر بسرعة"، على حدّ تعبيره، مشيرًا إلى أن الفاشية الإسرائيلية دلّلت على حالها في البداية بمظاهر بسيطة، وأنها باتت قوية وحاضرة في كثير من ممارسات القيادة والحكومة.
ووصف رئيس الشاباك السابق، كرمي غيلون، بكلمات قاسية جدًا عملية التدمير التي ينفذها نتنياهو لمؤسسة الحكم في "الدولة". وفي مركز هذا الانتقاد اللاذع، كيف يتمثل هذا التدمير في المجال السياسي؟ مجيبا "الحقيقة أن بيبي نتنياهو جبان، ولا يتخذ قرارات حاسمة في جميع الأوضاع، سواء ضد حركة حماس وإيران، وقدرة تحمّله في غزة مثلًا. لقد تلقى صواريخ، والجميع يضغط عليه لتجريد غزة من السلاح، ولكنه لا يسمح بذلك، ليس لأنه أقل منهم شعبويةً، بل لأنه يخاف من اتخاذ قرارات صعبة". ويسمّي غيلون مبادرات الضم "أمرا غير معقول"، حيث تضارب مصالح مطلق لجميع الأطراف. "الوضع الراهن جيد لـ(إسرائيل)، لأنها تحصل على كل ما تريده بدون مقابل"، قال. "لقد كنت شريكًا كاملًا بصفتي ضابط استخبارات في اتفاقات أوسلو. ولم يتحدَّث أي شخص بمفاهيم سلام خارج الغرف. السلام هو شيء ما باعوه للجمهور. نوع من الأفيون. داخل الغرف تحدثوا عن مصالح، بالضبط هذه هي طريقة عمل طاقم ترامب. (إسرائيل) خرجت من اتفاقات أوسلو مع الاتفاق الأمني الذي خدمها جدًّا ضد الإرهاب، ومع اتفاقات اقتصادية".
ويعكس عدم الاتفاق الإسرائيلي على خطة الضم تباينات داخلية وأزمة ائتلافية لا حصر لها، كما مع الإدارة الأمريكية، وهي تبتعد عن بؤرة انشغالها بالمنطقة ومحورها الرئيس الأمن الإسرائيلي، وخطة خريطة طريق صفقة القرن، في ظل انشغالات أخرى تجاه إيران واضطراب المنطقة عموما، وانشغال دولها بجائحة كورونا، وإغراقها بأزمات اقتصادية وبنيوية، لم يعد من السهل معالجتها والخلاص منها والعودة إلى الوضع الطبيعي؛ وما يجري في لبنان اليوم من أزمات معيشية واجتماعية وسياسية وأمنية، وتشابكاتها المعقدة مع الأزمة السورية، ولا سيما بعد البدء بتنفيذ قانون قيصر، والمشكلات الإقليمية الأكثر تعقيدا بلاعبيها الكثر، وتأثيراتهم على قوى محلية عديدة. ويدفع هذا كله نحو احتمالات تفجر حرب أو حروب محدودة وموضعية، وربما طويلة وأكثر اتساعا في ميادينها ورقعها غير الخاضعة للضبط والربط؛ ما جعل من تأجيل تنفيذ خطة الضم واحدة من الضرورات الأكثر إلحاحا للتفرّغ لمسائل إمكانية التوتير العسكري والأمني في المنطقة.
أفادت تقديرات إسرائيلية، في بدايات الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، بإمكانية أن تدفع التوترات الداخلية الأمريكية إلى تأجيل عملية تنفيذ الضم، بينما كانت قيادة جيش الاحتلال ترجح ألا يقدم نتنياهو على تنفيذ وعده في الأول من يوليو/ تموز الجاري، في حين أشارت صحيفة "إسرائيل اليوم" إلى تلميح نتنياهو إلى أن الإدارة الأمريكية باتت، في الوقت الحالي، غير معنية بتطبيق خطة التسوية الترامبية (صفقة القرن)، الأمر الذي يدفع أطرافا عديدة إلى الدعوة لاستئناف المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، من غير إنضاج أو توفر أيٍّ من معطيات أحلام (أو أوهام) التفاوض لدى الطرفين، بدلا من انتظار تطبيق مهزلة القرن التي سوف تتبدد مع تبدد فرص فوز ترامب في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل الرئاسية في الولايات المتحدة.
ومن جهة أخرى، لن يستطيع نتنياهو الإبقاء على "صفقته" التحالفية مع غانتس، مع ترجيح الدعوة إلى انتخابات جديدة، يماطل من خلالها لتأجيل تقديم نفسه إلى التحقيق معه في القضايا المتهم بها، خوفا من إدانته والحكم عليه، الأمر الذي قد يودي به إلى فقدان مستقبله السياسي؛ إذا بقي له من مستقبل أصلا، في ظل مراوغاته، وتحويل حيله إلى نوع من عقيدة خاصة، تشابه عقيدةً ترامبيةً يبرع في تقديم عروضها قبل خروجه من البيت الأبيض. وقد تكون تلك الحيل أقرب الطرق وأقصرها، نحو موت "ديمقراطية" (إسرائيل) المزعومة نهاية هذا الصيف، بحسب تعبير الكاتب الإسرائيلي حيمي شليف.