يكثر الحديث عن العملية السياسية السورية من وحي المعطيات والدلالات الحالية، مثل بدء تطبيق قانون قيصر؛ والمهاترات الإعلامية والقانونية بين أهم أقطاب النظام السوري، وتسريبات الإعلام الروسي عن الأسد وعائلته، وكثرة الحديث عن مشاريع إعادة الإعمار، ومن قراءة المصالح والغايات التركية؛ الروسية، وغيرها من الدول المحتلة والفاعلة على الساحة السورية. وهو ما يتطلب بعض التدقيق في جوهر المصالح الدولية في سوريا، سيما مصالح روسيا والولايات المتحدة، نظراً إلى تحكُّمهما بالوضع السوري، في غياب الفعل الشعبي أو محدودية مساهمته اليوم.
لذا وبعيداً عن قدرة الشعب السوري على قلب الأولويات الدولية، بل وعلى قدرته في استعادة زمام المبادرة كاملة، إن نجح في تصحيح أخطاء الماضي، لا بد من العمل على تحييد النظرة الرغبويّة تجاه الأحداث والأنباء الدولية المتتابعة، من خلال العودة إلى المصالح والاستراتيجية الدولية الرئيسة في سوريا، فمثلا، وبما يخص الإدارة الأميركية الحالية، نجد تخبطا كبيرا في تصريحات الرئيس الأميركي، ترامب، وقراراته، فهما يتراوحان بين توجهيْن، يمثل الأول تصريحاته التي تحابي بشار الأسد والرئيس الروسي بوتين في أثناء حملته الانتخابية الأولى؛ وقرار الانسحاب من سوريا؛ ورفض دعم الطموح التركي في سوريا، بل ومجابهته أحيانًا كثيرة، بينما يمثل التوجه الثاني تصعيداً خطابيًّا يصل إلى حد شتم الأسد، وإقرار قانون قيصر، ورفض الوجود الإيراني في سوريا. ويضع هذا الحال المهتمين والمعنيين بالشأن السوري أمام تناقضات صارخة، تضيف مزيدًا من الغموض على الوضع السوري، وعلى طبيعة المصالح الدولية، أو على الأقل على توجهاتها.
أي يجب العودة إلى طبيعة المصالح والإستراتيجية الأميركية تجاه سوريا والمنطقة، كي نتمكّن من تمييز المواقف الحقيقية من الزائفة، وأولها تراجع الاهتمام أو الرغبة الأميركية في الانخراط المباشر بقضايا منطقتنا وحيثياتها، من دون أن تسمح بأي مساس بأمن الكيان الصهيوني ومصلحته، وعبر حماية دول المنطقة النفطية (الخليجية) ورعايتها، بشكل محدود، ومن دون أيّ أعباء اقتصادية أو عسكرية، أو حتى سياسيّة، تذكر. إذًا وبغض النظر عن أسباب تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة العربية، إلا أنّه مجرّد تراجع، لا انسحاب كما ظن بعضهم وردّده طويلًا، حيث تحافظ الولايات المتحدة الأميركية على سيطرتها على أهم مرتكزات المنطقة، ما يمنحها القدرة على التأثير في مستقبل المنطقة وحاضرها، بما يخدم مصالحها أو رؤيتها من دون الحاجة للتدخل المباشر، سيما العسكري منه. كما يمكِّنها ذلك من العودة إلى التدخل بشؤون المنطقة في أي لحظةٍ تتطلب ذلك.
يُستنتج من ذلك أن غاية أميركا الرئيسة اليوم في منطقتنا، وسورية ضمنا، تعزيز قدرتها على ضبط الأمور والتحكّم بها، من دون التورّط أو التوغل بالقضايا اليوميّة. لذا يهدف إقرار قانون قيصر وبدء تنفيذه، وفق النظرة الأميركية، إلى مزيد من التحكّم الأميركي بالشأن السوري، وبشؤون المنطقة عمومًا. لذا لم يقتصر نص القانون على معاقبة النظام السوري، بل تعدّاه إلى التلويح أو التهديد في معاقبة داعميه والمتعاملين معه، دولًا كانوا أم أفرادًا أم مؤسسات. وبالتالي، امتلكت أميركا عبر القانون ورقة مهمة لإفشال أي مخططات دولية، لا تتوافق مع مصالحها حاضرا ومستقبلا، وبالتالي، القانون مجرّد وسيلة جديدة للتحكم الأميركي بعيدا عن التعبيرات والجمل البراقة التي يحتويها النص، والتي أثارت مشاعر بعضهم، ودفعتهم إلى الاعتقاد بقرب زوال النظام أو الأسد، استنادا إلى تحوّل في الموقف الأميركي.
كما يجب العودة إلى أولويات روسيا في سوريا، وإلقاء نظرة على رؤيتها السياسية لفهم تبعات قانون قيصر عليها، أو على مخططاتها، كملاحظة نجاح روسيا في تحقيق أهم أهدافها الإستراتيجية من دون الدخول في عناء الحل السياسي، وبغض النظر عن توقيت بدء مشاريع إعادة الإعمار، فقد تمكّن الروس من العودة إلى الساحة الدولية قوة إقليمية ودولية مؤثرة، عبر تدخلهم المباشر في سوريا، كما روّجوا منتجاتهم وتقنياتهم العسكرية، ما حوّل بلدهم إلى ثاني مصدّر للمنتجات الحربية على المستوى العالمي بعد الولايات المتحدة، كما سيطرت روسيا على الموانئ والحدود السورية (أو غالبيتها)، وبالتالي ضمنت تحكّمها بأيّ مشاريع مستقبلية نفطية وخدمية واقتصادية، تهدف إلى ربط منطقة الاتحاد الأوروبي مع دول المنطقة العربية، ما حوّلها إلى المستفيد الرئيس من موقع سوريا الجيوسياسي، وهو ما يمنحها ميزاتٍ اقتصادية مباشرة وغير مباشرة، كما يحد من قدرة الاتحاد الأوروبي على التخلص من التبعية شبه الكاملة للغاز الروسي.
طبعا، يدرك الروس، كما ندرك جميعا، أن مشاريع إعادة الإعمار ومشاريع الاستثمار في الثروات الباطنية النفطية وغير النفطية في سورية تتطلب إنجاز الحل السياسي، واستعادة حد أدنى من الهدوء والاستقرار. لكن رغم أهمية هذه المشاريع لروسيا، فإنها لم تكن ولن تكون ضمن أولويات المصلحة الروسية. لذا لا تستعجل روسيا قطف هذه الثمار على أهميتها، ونجدها هادئةً ومتريثةً وحذرة في التعامل مع الملف السوري وتشابكاته الدولية، ما يمكّنها من مساومة بعض الأطراف التواقة لمكاسب إعادة الإعمار والاستثمارات المستقبلية، كتركيا وإيران، عبر الضغط عليهم لقبول حل سياسي في سوريا وفق الرؤية الروسية، حيث يملك الروس رؤيةً مغايرةً عن الرؤية الدولية للحل، من حيث الجوهر والشكل، فهي لا تهدف إلى إحداث أي تغيير حقيقي في بنية النظام الأمني والشمولي، كما لا تكترث لإكساء النظام طابعًا ديمقراطيًا، ولو شكليًا، وهو ما نلمسه في الحوارات والمفاوضات التي أجرتها في أستانة وسوتشي، وفي حوارات اللجنة الدستورية العاجزة عن تحقيق أي اختراق، حتى على الصعيد الإنساني والسياسي.
وعليه، لا يبدو أن قانون قيصر نهاية النظام السوري، بقدر ما هو أداة ضغط وتحكّم أميركية، لذا لا طائل من التعويل عليه كثيرًا، لصالح التعويل على قوة التغيير الشعبية، إذ إن حراك الشعب السوري وفاعليته هما مصدر الخطر الحقيقي، وربما الوحيد الذي يهدّد المصالح الروسية والأميركية، وطبعا الأسدية، وهو القادر على إجبار روسيا وأميركا على إحداث تغييرات سياسية في بنية النظام السوري، تطاول الأسد ومحيطه السياسي والأمني، وربما الاقتصادي أيضا، وعليه، نجاح السوريين في تنظيم احتجاجاتهم وتحرّكاتهم الثورية، وفي تجاوز الإشكالات الثورية الأولى التي عانوا منها في عام 2011، سيما بما يخص التنظيم والبرنامج والرؤية والوسيلة، وهي المرتكزات الحقيقيّة الوحيدة لصناعة مستقبل سوري وطني ديمقراطي تقدمي، كما يأمل الشعب السوري.