استقبلت الجزائر بحفاوة ودمعة الدفعة الأولى من جماجم ورفات 24 من قادة المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي، بعد 170 سنة على احتجازهم بمتحف الإنسان في باريس، فهل سيغفر شعب الجزائر للقتلة فعلتهم؟ وهل سينسى الجزائريون ويكفون عن المطالبة بمحاسبة الاستعمار الفرنسي؟
استعادة رفات المقاومين للاستعمار بعد قرن ونصف القرن رسالة فخر واعتزاز إلى كل مقاوم للمحتلين، بأن الشعوب لا تنسى من أعطى من أجلها، وأن تكريم الشهداء ليس مقروناً بمدة زمنية، وليس قرين المعرفة، وإنما تكريم الوطن مقترن بتكريم شهدائه، والعكس ينطبق على العملاء عامة، فالجزائر التي تحتفي بتاريخ شهدائها هي الجزائر التي احتقرت وتحتقر كل من وضع يده في يد المحتلين الفرنسيين، ونسق معهم، وحمل سلاحهم، وضرب بسيفهم.
وإذا كان للحراك الشعبي في الجزائر الدور الأبرز في الضغط على فرنسا التي أدركت أن الجزائر كبيرة وعظيمة، وأن شعبها ماضٍ في طريقه للتعبير عن طموحاته الوطنية والقومية، وأنه ماضٍ في التغيير والبناء، فإن إطلاق سراح رفات الشهداء في هذه الأيام يعد رشوة فرنسية للجزائر، وطلب مساندة لموقف فرنسا الداعم لخليفة حفتر في ليبيا، ولا سيما أن إطلاق سراح الدفعة الأولى من الرفات جاء بعد مماطلة امتدت لأربع سنوات.
استعادة رفات 24 جزائرياً من أصل ما يزيد على 500 إنسان ذبحتهم فرنسا. سيثير شجن الجزائريين، وسيفجر في نفوسهم الوفاء لوطنهم وعروبتهم ودينهم، وسيدفعهم إلى الوقوف مع الحق والعدل ومع جماهير الشعب الليبي التي ترفض التدخلات الغربية، وترفض عودة الاستعمار الفرنسي من بوابة حقوق الإنسان والمصالح الإستراتيجية، فمصلحة الجزائر هي مصلحة ليبيا والمغرب وتونس والعراق وسوريا والسودان واليمن، ولا مصلحة للشعوب إلا بالحرية، والاستقلال عن تسلط المستعمرين.
قبل سنوات شاركت بكلمة في المؤتمر الذي عقد لنصرة الأسرى الفلسطينيين في العاصمة الجزائرية، وقد استمع الجزائريون إلى المتحدثين الفلسطينيين باهتمام، وصفقوا بحرارة، ومسحوا براحات أيديهم دمعات، ولكن عندما جاء دور الجزائر للحديث عن تجربتها، وتضحياتها أمام الاحتلال الفرنسي، تقدم أحد الرجال الذين حكم عليهم بالإعدام، وتمكن من الهرب من السجون الفرنسية، فقال الرجل بكبرياء الجزائر:
أيها الفلسطينيون، من يُرِدْ وطنه حراً عليه أن يضحي، البكاء والدموع لا يُرجعان وطناً، البكاء والدموع والتوجع قد تثير غباراً من التعاطف الدولي، وتستدرُّ الشفقة، ولكنها لا تعيد وطناً سليباً، لأن الذي يعيد الأوطان هو الدم والجرح وعذاب السجن، والمقاومة دون توقف.
وأضاف الرجل الجزائري العجوز: أيها الفلسطينيون، أوصيكم بالوحدة، واعلموا أن الجزائر لم تنل استقلالها إلا بعد أن قدمت في كل صباح 557 شهيداً لمدة سبعة أعوام، لقد قدمت الجزائر كل شهر 17 ألف شهيد تقريباً، لقد بلغ عدد الشهداء مليونا ونصف المليون، وكان شعارنا: نعم للمفاوضات ولكن مع استمرار المقاومة المسلحة، ولهذا فرضنا على العدو الفرنسي إرادتنا، ونالت الجزائر استقلالها.
بعد أن أنهى الرجل العجوز كلمته، توجهت إليه، وصافحته بحرارة، وشكرته، وسألته: كم بلغ عدد الأسرى الجزائريين في ذلك الوقت، فقال: ثلاثة ملايين جزائري بين أسير ومفقود.
حق للجزائر أن تفخر بماضيها وتجربتها القتالية، وحق لها أن تفخر بحاضرها، وهي تفرض على فرنسا استرجاع رفات أبطالها، وحق لها أن تقول للفلسطينيين: هذا هو الطريق، فلا تحيدوا عنه، ولا تجبنوا، ولا تترددوا، ولا تكثروا من الشكوى والأنين، فمن أراد فلسطين، عليه أن يضحي بالغالي والثمين.