رغم أن الكلمات التي تضمنها خطاب المتحدث باسم القسام كانت معدودة ومحدودة فإنها أحدثت ضجة كبيرة في وسائل الإعلام الإسرائيلية التي سارعت وتسابقت في نقل الخبر تحت عنوان (الذراع العسكري لحماس تُهدد إسرائيل)، ومن المؤكد أن هذه الكلمات حظيت باهتمام واسع في أروقة السياسيين والغرف المغلقة للأجهزة الأمنية لإدراكهم أن لكل كلمة معنى وتداعيات ولكل خطاب رسائل ومؤشرات أهمها:
- تزايد احتمالات الدخول في تصعيد عسكري مع المقاومة في غزة إذا أقدمت "الحكومة الإسرائيلية" على إقرار خطة الضم في بداية يوليو.
- جدية تهديدات المقاومة وعدم خشيتها من المواجهة وثقتها بقدرتها على إيلام "إسرائيل" بعد أن نجحت في مراكمة وتطوير إمكاناتها التي تؤكد استمرار تآكل قوة الردع الإسرائيلي وفشل محاولات ترميمها.
- فشل محاولات "إسرائيل" تحييد غزة والاستفراد بالضفة من خلال إلهائها تارة واستنزافها تارة أخرى، يدحض الادعاءات والإشاعات التي روجها البعض أن المقاومة تسعى لإقامة دويلة في غزة وتساهم في تطبيق صفقة القرن.
- شَكّل الخطاب نقطة تحول مهمة في الصراع مع الاحتلال؛ لأن التصعيد المحتمل لن يكون في إطار الفعل ورد الفعل المعهود في العمل العسكري، بل سيكون رد فعل عسكري لعمل سياسي.
- الكلمة جاءت تأكيدًا لفشل مشروع الخيار الإستراتيجي الواحد، فخطة الضم تقضي على وهم حل الدولتين، وتنهي مهزلة المفاوضات التي استمرت ثلاثة عقود متتالية دون أن تحقق حلم إقامة الدولة الفلسطينية، وكذلك جاءت تجسيدًا لقول الشاعر "غض المفاوض صوته فتكلمي بلسان نار يا كتائب أو دم – لم يفهم المحتل من خطبائنا فلتفهموا المحتل ما لم يفهم".
- فهم طبيعة وعقلية المحتل الذي لا يعرف إلا لغة القوة وهو ما اعترف به رئيس جهاز الشاباك السابق عامي آيالون (نحن لا نتنازل إلا تحت التهديد).
وفي قراءة واقعية لحيثيات المشهد الإسرائيلي نلمس تراجعًا يطال جميع مناحي الحياة ممثلًا في خمسة مجالات رئيسة هي:
- تشتت وانقسام داخلي: يتمثل بعدم وجود توافق حتى داخل الحكومة حول ضرورة الضم وكيفية تطبيقه، فمنهم من يطالب باستغلال وجود ترمب على سدة الحكم لفرض السيادة الكاملة على مناطق الضفة، ومنهم من يطالب بالاكتفاء بضم بعض أجزائها، أما الآخر فيحذر من التداعيات الخطيرة التي وصفها الجنرال عاموس جلعاد بالكارثة التي ستحل "بإسرائيل"، وبناء عليه فإن التصعيد المحتمل سيزيد من حدة الانقسام الذي سيتفاقم أكثر وأكثر في حال وقوع خسائر بشرية ومادية.
- وفي السياسة الخارجية: ستتحمل "إسرائيل" المسؤولية الكاملة عن التصعيد وستفقد الشرعية الدولية لأي عمل عسكري، لاسيما أن خطوة الضم تمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، كما عبر عن ذلك أنطونيو غوتيريش أمين عام الأمم المتحدة.
- وعسكريًا: لا يمكن لأحد أن ينكر أو يتجاهل القوة العسكرية الإسرائيلية وقدرتها على إحداث دمار كبير؛ إلا أن الاستخدام المفرط للقوة قد يكون وبالًا عليها، إذ إنه سيجبر الطرف الآخر على الرد بقوة وتكثيف ضرباته للعمق الإسرائيلي، لكن الأهم من ذلك هو أن امتلاك السلاح لا يكفي، فقد اعترف كبار الضباط أن الجيش يمر بأسوأ حالة منذ سبعينيات القرن الماضي بسبب تراجع الدافعية القتالية وتهرب الجنود من أداء الخدمة تحت ذرائع عدة، أهمها المرض النفسي ما يعني أننا أمام ذراع بري مشلول وغير قادر على المواجهة وهو ما تجسد خلال العدوان الأخير على غزة إذ إنه لم يتمكن من الدخول لأكثر من كيلومتر ونصف فقط، وسرعان ما تراجع جارًّا أذيال الخيبة بعد أن تمكنت المقاومة من قتل العشرات من جنوده وأسر عدد آخر لا يزالون في قبضتها حتى يومنا هذا، كما ثبت عجز سلاح الجو عن حسم المعركة، أو حتى حماية الجبهة الداخلية، واضطراره لإطلاق 1200 صاروخ موجه لأهداف خالية لإثبات وجوده ومنع حالة الإحباط حسب اعتراف يائير جولان نائب رئيس هيئة الأركان السابق.
- واقتصاديًا: تسببت أزمة كورونا في انكماش الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 7% وتعطيل عشرات الآلاف من المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وانضمام مئات الآلاف إلى صفوف العاطلين عن العمل، وهو ما أثر في الخطة الخمسية التي أعدها رئيس هيئة الأركان واضطراره لإلغاء العديد من المشاريع.
- وفي القطاع الصحي: تجدُّد أزمة كورونا يهدد بانهيار الجهاز الصحي الذي يعاني أصلًا أزماتٍ متراكمة وعجزًا في الإمكانات البشرية والمادية منذ سنوات، ما سيضعه أمام تحدٍّ كبير إذا اندلعت مواجهة عسكرية وما يترتب عليها من إصابات.
في ظل ما ذكرناه سابقًا يتبين أن المقاومة التي أدارت الجولات والعمليات السابقة بحكمة عالية لم تتبنَّ هذه الرؤية اعتباطًا، بل إدراكًا لطبيعة المرحلة، واعترافًا بضرورة دفع ثمن التحرر من الاحتلال.