فلسطينيون يفترشون الأرض بأمعاء خاويةٍ، ويلتحفون السماء، و"ثورة حناجر" أطفالٍ، وكبار، ونساء، بُحَّت في غزة المُحاصَرة، لتقول: "لا" في وجه حكومة رامي الحمد الله.
ترتفع في هذا المشهد أعلامُ فلسطين لرفض ما يسميه محتجون التمييز بين قطاع غزة والضفة الغربية، أو فصلهما عن بعضهما البعض، جاؤوا جميعًا وتركوا خلفهم أسرهم، وأطفالهم، ليجتمعوا على هدف واحد: "على حكومة الحمد الله الرحيل".
هؤلاء هم موظفون في السلطة الفلسطينية، استلقى بعضهم على الأرض في منطقة الجندي المجهول في غزة، وقد اتخذ "المحلول" مكانه في أياديهم، في مشهدٍ لا يُذكّر بشيء، سوى بأولئك الأسرى الذين يخوضون معارك الإضراب عن الطعام في سجون الاحتلال، لانتزاع حقوقهم.
"هذا الرجل (أي رامي الحمد الله) سيوصلنا لمرحلة العبودية.."، هي كلمات استجمع الموظف في السلطة، المضرب عن الطعام نائل الزغبي، قواه لينطبق بها.
يدركُ الناظر إلى وجهه الأصفر، أنه لم يذق شيئًا من الطعام منذ فترة، ولدى سؤاله عن مطلبه، يعود ليلتقط أنفاسه، قائلا لصحيفة "فلسطين": "أنا موظف مثلي مثل أي موظف في جهاز الأمن الوطني".
يوضح الزغبي، أن الخصم الذي أجرته حكومة الحمد الله على راتبه، لم يبق له شيئا، وقد سلّفه زميل له 400 شيقل "رأفة في أولاده" الذين يبلغ عددهم 16 أنجبهم من زوجتين.
"أنا غير قادر على المغادرة إلى بيتي، منذ أمس حتى اللحظة لا أعرف كيف صار حالهم؟ أتصل بهم، لكني لا أستطيع أن أتواصل معهم أكثر من ذلك.."، يتابع حديثه، متعهدًا بالاستمرار في الإضراب عن الطعام، حتى يتراجع الحمد الله عن قرار الخصم من رواتب موظفي السلطة في القطاع، الذي بلغت نسبته نحو 30% أو زد على ذلك.
ويشبه بين المجزرة التي ارتكبتها قوات النظام السوري في بلدة خان شيخون السورية، بحق الأبرياء، وبين "مجزرة الرواتب" التي ارتكبتها حكومة الحمد الله في غزة؛ وفق وصفه.
الأربعيني، ضيف الفيومي، هو موظف في السلطة، وزميلٌ للزغبي في الإضراب عن الطعام لذات السبب، يتخذ مكانه إلى جانبه في الاحتجاج على الأرض بأمعاء خاوية.
إذا سألته: "لماذا لجأت للإضراب؟"، يجيب بكلمات بسيطة لكنها تبدو نازفة: "قطعوا قوت أولادي"؛ في إشارة إلى حكومة الحمد الله.
يصمم الفيومي الذي اجتمعت في وجهه القمحي علاماتُ الامتناع عن الطعام، على أنه مستمر في ذلك "حتى آخر قطرة دم، ومستعد أن أموت"؛ في سبيل استرجاع حقوقه من الحكومة.
ويحاول الفيومي التعبير بالكلمات عن معاناته المزدوجة، من الاحتلال الإسرائيلي الذي هدم منزله، ومن حكومة الحمد الله التي خصمت من راتبه، حتى لم يتبق منه سوى أربعة شواقل.
وللفيومي سبعة أبناء منهم رضيع، وآخرون يدرسون في الجامعات، بحاجة إلى المال، يقول ذلك بصوته الخافت، مضيفا كأنما نزف جرحٌ غائرٌ فيه: "اليهود هدَّوا بيتي فوق راسي، وأنا مصاب وجريح قبل هيك".
أما مطلبه، فهو "أن يرجع قوت أولادي"، لكنه لم ينس أن يطالب الحمد الله بالرحيل، مخاطبا إياه: "استقِل واذهب إلى بيتك".
"أجندة غربية"
احتشد موظفو السلطة في "الجندي المجهول"، نساءً ورجالاً، ليعبروا عما أصابهم من "قهر" أضيف إلى معاناتهم القائمة، كما سائر الغزيين، من تداعيات الحصار والاحتلال.
من هؤلاء الموظفة رجاء راضي، التي اتخذت موقعها في خيمة الاحتجاج، مشددة على وجوب عدم وجود انقسام بين غزة والضفة الغربية.
وتطالب الأربعينية راضي، رئيس السلطة محمود عباس بإعادة كل مستحقات الموظفين، منوهة إلى أن الخصم من الرواتب أثر "بشكل سلبي كبير على الأسر"، عدا عن تأثيره على القيمة الشرائية في المجتمع.
وتعتقد أن "هذا كله يخدم أجندة غربية، والأجندة الغربية تريد أن يبقى الانقسام موجودا ويحصل فصل بين غزة ورام الله، هذا يخدم أناسا كثر في الداخل والخارج، ونحن ننادي بالوحدة".
في خضم الوعيد باستمرار الاحتجاجات، والمطالبة برحيل الحمد الله، والهتافات الثائرة ومنها: "يا أبو عمار يا أبونا.. من بعدك دمرونا"، كان البعض يرفعون صورة رجلٍ يتهمون حكومة الحمد الله بالتسبب في تدهور حالته الصحية، بعد الخصم من راتبه، ما أدى إلى وفاته.
ويقول الأسير المحرر، العميد موفق حميد، إن عدد المضربين عن الطعام 25 شخصا، مرجحا أن يزيد هذا العدد، فيما وصف حشد الموظفين أمس بأنه "ناجح، وستكون هناك الآلاف المؤلفة السبت المقبل (غدًا)".
ويشير حميد إلى أن المطلب الأساسي هو "مساواة أهالي وموظفي قطاع غزة مع موظفي الضفة الغربية.. مستعدون لتقاسم رغيف الخبز"، مؤكدا "أن ما ينطبق على الضفة يجب أن ينطبق علينا نحن وطن واحد".
وقرار الخصم، حسبما يوضح، سيترك تداعياته وآثاره على أوضاع موظفي السلطة، معتقدًا أن الحال قد يصل بهم إلى تحويلهم إلى ما يشبه "شؤون اجتماعية".
ويتابع: "نحن مع وحدة الوطن، مع التكافل الاجتماعي والاقتصادي"، مردفا: "لا لفك الارتباط بين الضفة الغربية وقطاع غزة.. نحن ننظر بخطورة إلى ذلك، أنه يوجد في الأفق مؤامرة سياسية كبيرة تستهدف قطاع غزة بالذات، هذا القطاع الصامد الثائر من أجل أن يقبل بأي حلول مشبوهة ستأتي على المنطقة".
وكانت السلطة الفلسطينية طلبت من موظفيها في قطاع غزة الامتناع عن القيام بواجباتهم، عقب أحداث الانقسام الذي وقع منتصف العام 2007.
ويشار إلى أن حكومة رامي الحمد الله تمتنع منذ تشكيلها في 2014، عن صرف رواتب الموظفين الذين عينتهم الحكومة الفلسطينية السابقة برئاسة إسماعيل هنية، في قطاع غزة.