من غايات البعثة المحمدية تزكية النفوس، وتهذيبها لتكون لائقة بالتواصل مع الملأ الأعلى، وذلك ما أشارت إليه عديد الآيات في القرآن الكريم، والتي يلحظ فيها تقديم التزكية على التعليم، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ".
وهذه التزكية لا بدَّ لها من حاضنة, ترعاها وتقوم على متابعتها, وأفضل حاضنة لها المساجد, فهي البيئة المناسبة لتزكية النفوس وتطهيرها, ولذلك نجد أن أول عمل فعله النبي, صلى الله عليه وسلم ,في المدينة بناء المسجد.
بيوت الله
ويذكر الداعية مصطفى أبو توهة أن علاقة المساجد بالتربية والتهذيب لها وجوه عديدة أولها :
استشعار أن هذه المساجد بيوت الله تعالى, الأمر الذي يضفي عليها صبغة الإجلال والإعظام لله رب العالمين، فهي من حرمات الله " ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ", ثم هي من ناحية أخرى تعطي النفس الراحة والسكينة وذلك سر لا يقف عليه إلا خالق النفس سبحانه .
ويبين أبو توهة لصحيفة "فلسطين" أن المسجد بما فيه من صلاة جماعية, تتلى فيها آيات الوحي الكريم، والتي تربى عليها خير جيل، ضرب المثل الرفيع للمسلمين، ثم إن المسجد وما فيه من خطب لصلاة الجمعة, والتي هي فرض عين على كل مسلم, تعد منارة إعلام لبث القيم والمبادئ وتقرير الأخلاق والمثل العليا.
ويوضح أن توافد الناس إلى بيوت الله تعالى بعد الأذان, فيه وحدة للمسلمين، ثم إن المساجد رمز لقوة الأسرة الاجتماعية, بين صفوف المؤمنين, إذ يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تفقدوا الناس في الصلاة-صلاة الجماعة- فإن كانوا مرضى فعودوهم وإن كانوا غير ذلك فعاتبوهم".
الغصة والضيق
ويشير أبو توهة إلى أنه لا يمكن أن يُتصور مجتمع مسلم خالٍ من المساجد, وإلا فإن حياتهم ستكون "شَذَرَ مَذَرَ" وقد رأينا ذلك في حالة الحجر الصحي, وامتناع الناس لظروف قاهرة طارئة، فلم يتمكنوا من أداء صلاة الجماعة لفترة، الأمر الذي أصاب كثيرا من المسلمين بالغصة والضيق.
ويلفت إلى أن التعلق بالمساجد يعد من علامات حب الله للعبد, وفيه بشارة بأن الله يظل من تعلق قلبه بالمساجد, تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله, كما ورد في الحديث الشريف "ورجل قلبه معلق بالمساجد".
محضن التربية
من جهته يبين أستاذ الفقه المقارن المشارك في كلية الشريعة والقانون د.ماهر السوسي أن علماء التربية الإسلامية اعتبروا المسجد محضناً من محاضن التربية, بالإضافة للأسرة والمدرسة وغيرها، كما أنها ذات أثر في نفس الفرد المسلم، وأنه لا يمكن فصل بعضها عن بعض, ولا يمكن أن نستغني عن أي منها، لأن العملية التربوية عملية متكاملة ومتراكمة.
ويوضح السوسي لصحيفة "فلسطين" أن المسجد له تأثيره البالغ في نفوس المسلمين، ويمتاز عن غيره من المحاضن الأخرى بميزات لا توجد في غيره.
ويلفت إلى أن التربية الروحية لا يمكن أن تتوفر بشكل واضح وصريح، إلا في المسجد فهو بيت الله، وهو الذي تقام فيه العبادات وعلى رأسها الصلوات, وهو الذي يتلى فيه القرآن وتلقى فيه المواعظ والخطب والتوجيهات، وما في ذلك من المكونات التربوية التي يحتاجها الإنسان المسلم.
ويقول السوسي: "لو حاولنا تتبع دور المسجد في الأثر على النفس، نجد أنه هو المكان الأول في اتصال الناس بربهم سبحانه وتعالى، فالصلاة صلة العبد بربه، وهي تذكره بالله وعظمته, وتجعله أكثر ارتباطا بخالقه".
الانضباط
ويضيف السوسي: " العبادة هي الطاعة، فهي من أكثر وسائل التربية التي تدفع إلى طاعة الله والعمل بمنهج الله, "وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".
ويفيد أن اتباع منهج الله فيه وحدة للمسلمين, وهذا يعني أن يكون سلوك المسلمين, مرتبطاً بهذا المنهج القويم, الذي أمر الله به بقوله تعالى: " لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ".
ويشير السوسي إلى أن المسجد يؤسس العلاقة بين الإنسان وربه، ويعلم الانضباط في العبادات, وعلى رأسها الصلوات الخمس بأوقات محددة "..كتابا موقوتا"، على ذلك يتعود المسلم الذهاب إلى المسجد خمس مرات في أوقات محددة ومعلومة، وفيه تعليم للمسلم كيفية الالتزام بالوقت.
ويختم بأن المسجد له الأثر الأكبر في التربية الإسلامية للمسلم, ليكون صالحاً ونافعاً, أينما حلَّ, ويكون قدوة لغيره حتى في البلدان غير الإسلامية.