ما إن سمع الناس بالتوجه الحكومي الجديد في غزة للتعامل مع جائحة كورونا، بالعودة التدريجية المنضبطة لعمل القطاعات المتضررة، حتى زادت كثيرًا وتيرة عدم الالتزام بالتدابير الوقائية المطلوبة، وكأنهم فهموا خطأ أن الخطر قد زال، وأن إجراءات السلامة الشخصية لم يعد لها داع، نظرًا لأن الجهات الحكومية تعيد النظر في إجراءاتها العامة المتخذة.
فماذا يعني هذا التوجه الحكومي الجديد؟، وهل هو تخفيف فعلًا من قيود فرضتها الجائحة؟، وكيف يجب التعامل معه من المجتمع؟
من المهم بداية أن يعي المواطن حقيقة هذا التوجه الذي يوازن بين أمرين: أولهما؛ إعادة النظر في الإجراءات المتخذة داخل المجتمع، بما يسمح بعودة عمل القطاعات المتوقفة حاليًّا وفق ضوابط سلامة طبية وضعتها وزارة الصحة، وثانيًا؛ التشديد بإجراءات الوقاية على معابر ومنافذ قطاع غزة، وفي مراكز الحجر الصحي الإلزامي، باعتبارها مكامن الخطر الأساسي لنقل العدوى.
فالأمر الأول بات ضروريًّا مع الحاجة لتنشيط الاقتصاد المحلي الذي يعاني أصلًا جراء الاحتلال والحصار والإجراءات العقابية، خاصة بعد مرور شهور عديدة توقفت فيها مئات المنشآت والمصالح الاقتصادية عن العمل، وزادت فيها معدلات البطالة، ولم تستطع الموارد المالية الحكومية المتواضعة سد العجز المترتب على هذا الإغلاق، رغم الجهود الكبيرة التي بذلت في هذا الاتجاه، والمساعدات الحكومية التي قدمت للقطاعات المختلفة.
والأهم في هذا الجانب طبيًّا أن هذه المدة الزمنية التي لم تشهد تسجيل أي إصابات بالفيروس داخل المجتمع، عززت من شواهد ومؤشرات خلو قطاع غزة داخليًّا من هذا الفيروس، لذا رفعت الجهات الحكومية نسبة المسؤولية المباشرة الملقاة على المواطن، قياسًا بالدور الحكومي، بضوابط وتدابير وقائية تنظم إعادة عمل المنشآت كافة، فمن أراد حماية نفسه ومجتمعه حقًّا فليلتزم بها، وهذا لا يعني بالمناسبة تخلي الحكومة عن مسؤولياتها بالرقابة ومتابعة مدى الالتزام والتدخل حال المخالفة.
أما الأمر الثاني التشديد على المعابر ومراكز الحجر الصحي فهو واجب في ضوء ازدياد منحنى تسجيل الإصابات في المناطق الجغرافية المحيطة بنا، ما استدعى وقفة جادة للتفكر وإعادة تقييم كل بروتوكولات وآليات العمل على المنافذ البرية وفي مراكز الحجر الصحي، نحو مزيدًا من التشدد في الإجراءات بشأنها، واتخاذ قرارات استثنائية لازمة لحفظ صحة وسلامة مجتمعنا، حتى لو بدت قاسية.
فالأصل في المنافذ أنها مغلقة منذ مارس الماضي وفق القرار الحكومي، والاستثناء هو فتحها لاستقبال أفواج من العائدين، ولولا آلية تنظيم عودة العالقين وقرار الحجر الصحي الإلزامي -بعد معية الله- لكنا نخوض الآن معركة خاسرة مع وباء قهر أكبر الدول تحضرًا، وتسبب بانهيار أكثر المنظومات الطبية تقدمًا، وجعلها تستسلم بانتهاج سياسة مناعة القطيع، ليحيا من امتلك مقومات الحياة، ويواجه الآخرون مصيرهم المحتوم.
وعليه إن العودة التدريجية لعمل القطاعات المتضررة وفتح المنشآت المتوقفة لا يعني بحال زوال الخطر، ولا يقصد به السماح بالمخالطة أو التحرر من التدابير الشخصية الوقائية، فالوباء لم يصل إلى ذروته بعد، وسلوكه عالميًّا في نقل العدوى ليس ثابتًا، وعداد الوفيات لم يتوقف، ومؤشر الإصابات في ازدياد.
ولما كانت جائحة عالمية فمن المهم أن تستفيد المجتمعات من الأحداث التاريخية المماثلة وتستخلص منها العبر والعظات، ففي عام 1918م اجتاحت الأنفلونزا الإسبانية العالم، وضربت دوله خلال عامين في ثلاث موجات، مخلفة 600 مليون مصاب وقرابة 50 مليون وفاة، وكانت أغلب الوفيات خلال الموجة الثانية، بعد أن ضجر الناس من إجراءات الحظر والتباعد الاجتماعي خلال الموجة الأولى، فرفعت الحكومات الحظر وتسلل الشعور الخادع بالأمان بين المواطنين، فتخلوا عن التدابير الوقائية الشخصية، ولم يلتزموا بالإجراءات الاحترازية التي دعت لها حكوماتهم؛ حتى فاجأتهم الموجة الثانية، لتحصد عشرات الملايين من البشر.
مقولة "التاريخ يعيد نفسه" لم تصدر من عدم، فدعونا لا نكرر الخطأ ذاته الذي دفع أجدادنا ثمنه، ولندرك أن نتائج المعركة مع هذه الجائحة أساسها السلوك الشخصي، وفي الوقت الذي تُطوق فيه الحكومات بضرورات تحكمها في مواجهتها، إن للشعوب والأفراد خياراتها، إما النجاة نتيجة التزامها أو الهلاك بسبب المكابرة.
وتذكر دائمًا أنت سيد قرارك، والأهم لا تنسَ أنك وأحبابك من سيدفع الثمن.