فلسطين أون لاين

"فلسطين" ترصد لقطات من عملهم داخل ميناء غزة

تحت لهيب الشمس.. صيادون يطاردون "لقمة العيش"

...
غزة-يحيى اليعقوبي

الثانية عشرة ظهرًا؛ الشمس تتعامد فوق مرفأ الصيادين بمدينة غزة، القوارب داخل الحوض تتمايل بهدوء مع سكون الرياح، معه سكنت حركة الموج كذلك، كل شيء بدا هادئا وهاربا من حرارة القرص المتوهج، إلا الصياد أبو محمد الشرافي ورفاقه، عادوا للتو من الصيد.

بعد تلك الرحلة؛ جلس الشرافي لنيل قسط من الراحة على متن قارب مجاور، ثم أخذ رفيقه الصندوق الأزرق الوحيد الذي جنوه لهذا اليوم لبيعه وكسب قوتهم، في رحلة انطلقت الخامسة فجرا أبحر فيها الصيادون لمسافة أربعة أميال واستمرت حتى الثانية عشرة وعادوا بصيد يزن 14 كغم من نوع "فريدي".

"بعد كورونا السمك انضرب فش أسواق وفش تصدير" .. كلمات قالها الشرافي، وهو يقلب كفيه، لكن الحمد الله على دوام الرزق حتى لو كان قليلا.

بلهجة عامية سبقتها ضحكة فردت وجنتيه، يضيف: "زي ما بيقولوها الجوع ولا القرقشة، هدا مش مجال عملنا ولا مساحة صيدنا".

يبدي رضاه بعد أن ارتدى قبعته لتحميه من حرارة الشمس: "كنا متوقعين شغل أوفر لكن الواحد يجيب 15 شيقلا ولا يقعد بالدار بدون شيء ".

على متن هذا القارب، يعمل أربعة أشخاص يعيلون نحو 35 فردًا، يوفر الصيد دخلهم الوحيد، مما يجعل الصيادين يتحملون مرارة العمل في البرد وتحت لهيب الشمس.

طبعت الشمس، حرارتها على يدي الشرافي ومن معه، ملامح وجوههم الداكنة أكلها العمل تحت القرص الأحمر يخبرك بحجم معاناتهم.

شواهد معاناة

جمال قارب الشرافي يفسده ثلاثة ثقوب في أسفله بجانب المحرك مرقعة بمادة "الفيبر جلاس"، يشير باتجاهها ثم يعلق: "انظر؛ هذا من بعض ما نعانيه، ملاحقة، اعتقال، اطلاق نار، لا يوجد لك حرية بالصيد، ولا يوجد معدات إذ يمنعها الاحتلال، فضلا عن الإغلاق المفاجئ حينما تكون قد فردت الغزل داخل البحر، واشتريت الوقود لتعبئة المحرك، ومن ثم يطلب منك الاحتلال مغادرة البحر لوجود قرار بالإغلاق بذرائع أمنية، فنعود لأطفالنا بدون دخل".

بجواره، التقط الصياد غالب بكر أنفاسه، ثم غسل يديه بالماء ورشق بها وجهه محاولا إطفاء لهيب الشمس، بينما هو كذلك يقول: "مهنة الصيد متعبة، سواء في البرد أو الصيف، واليوم كان الرزق "ضعيفا" لكن الحمد لله: "قوتوا ولا تموتوا" (مثل شعبي)".

لكن ما الشيء الممتع بالنسبة لك؟ .. أجبره السؤال على إخراج ضحكة عفوية، ليرد بلهجة عامية: "لما تسرح وتصيد سمك ويكون عندك شغل فهدا شيء ممتع".

قبل أربع سنوات، صادر الاحتلال مركبا لبكر وعائلته يبلغ ثمنه 70 ألف دولار، كما يقول، لكنه أعاده قبل عامين تالفا، يردف: "قمنا بركنه في الميناء لأننا لا نستطيع إصلاحه".

بزاوية أخرى، ينهمك الفتى أحمد السلطان (16 عاما) في إصلاح غزل ممزق، بحركة سريعة كان يمرر إبرة بحجم اليد بين الثقوب مصلحا إياها، هو على ذات الحال منذ الساعة الثامنة صباحا ولا زالت أمامه عدة ساعات أخرى كي ينتهي من إصلاح الغزل الممزق بسبب الصخور داخل البحر كي يحصل على أجرة يومية تبلغ 50 شيقلا تنتظرها عائلته بفارغ الصبر، يقول عن تحمله لهذه المشقة وهو يستمر بإصلاح الغزل: "هدي شغلتنا وعشان الرزقة لازم نتحمل".

"الحمد لله الواحد صار يطلب السترة وبس، لأنه هدا الموسم مش الموسم المطلوب وما أجاش ربع اللي كان يجي سابقا" .. خرجت تلك الكلمات من الصياد أشرف الشرافي الذي كان يجلس على مقدمة المركب الذي يجلس بجواره الفتى السلطان وهو يصلح الغزل.

انتظار طويل

فيما يهرب مروان الصعيدي (60 عاما) هو ومجموعة من الصيادين تحت ظل أحد الجدران في الميناء، لكن عيونهم كانت ترقب عودة قوارب أبنائهم من الصيد منذ ساعات الصباح.

بينما كان الصعيدي يجلس واضعا يده على ركبته، يقول: "نجلس هنا حتى يعود أبنائنا من داخل البحر للاطمئنان عليهم أولا، ومعاينة الصيد".

ترسم التعرجات طريقها في ملامح وجه هذا الصياد، الذي أمضى عمرا طويلا داخل البحر، ونقل هذا المورث لأبنائه، وروى لنا قصة اعتداء الاحتلال على ابنه خضر.

23 مارس/ أذار 2017م، أوشكت الشمس على الاختفاء خلف الأفق، انطلق خضر في رحلة بحرية واعدً أطفاله بـ "صيد وفير"، افترش غزله بقعة من مياه البحر على بعد ستة أميال، مرت عدة ساعات على هذا النحو، قبل أن تحاصره قوارب الاحتلال قبالة سواحل خان يونس، وتطلق رصاصات معدنية مغلفة بالمطاط على عينه، أدت لفقدانه النظر.

كانت لحظة دامية و"جريمة"، غيرت مسار حياته .. كانت تلك الساعة فاصلة بين عالمين، لحظة كان خضر الصعيدي يجوب فيها بحر قطاع غزة شمالا وجنوبًا، يعرف كل شيء فيه، لا يحتاج حتى إلى بوصلة "اتجاه" لتقدير المسافات، كان هذا عالمه، قبل أن يصبح طريح الفراش قعيدا لم يعد يرى من ذلك العالم سوى ذكريات تجوب الآن مخيلته.