«لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ».
محمد الفاتح سابع سلاطين الدولة العثمانية، ابن السلطان مراد الثاني، قضى على الإمبراطورية البيزنطية، شرَّفه الله بهذه البشارة النبوية، ليكون محمد الفاتح نعم الأمير ونعم القائد المسلم المجاهد العنيد الذي إذا صمم على القيام بشيء لم يثنه عنه إلا قدر الله، بل كان قدر الله أن يكون هو خير أمير وجيشه هو خير جيش.
امتلك الأمير المجاهد محمد الفاتح صفات تؤهله لهذه المهمة الصعبة؛ فكان قائدًا عسكريًّا محنكًا، واسع الاطلاع والثقافة، صاحب قوة وحضور وتأثير في الآخرين، الأمر الذي كان له كبير الأثر في تحقيق النصر في نهاية المطاف، فالشحن المعنوي لجيشه، وتذكيره الدائم لهم بعظم الهدف الذي خرجوا من أجله، وانتظرت الأمة الإسلامية بشراه منذ وقت طويل، جعل جيش فتح القسطنطينية لا يتصور إلا نهايةً واحدة لهذه الحملة؛ وهو ضم هذا الحصن الصليبي المنيع الذي استعصى على المسلمين ضمه قرونًا عدة لراية الإسلام لتعلو خفاقةً مكان راية الصليب فقط إرضاءً لله وحده، فهم لم يخرجوا من ديارهم فاتحين إلا لتعبيد العباد لرب العباد، فإن لم يكن النصر، فالنصر المظفر هو الخيار الوحيد المتبقي، لم يكن في قاموس ذلك القائد المسلم أو جيشه كلمة اسمها هزيمة أو فشل، في قاموسهم فقط كان النصر، والصبر، والإيمان بالله، وطلب العون منه.
ولو رجعنا في التاريخ قليلًا لطفولة الفاتح لعلمنا السر في صفات الأمير التي أهَّلته لأن يكون نِعم الأمير الذي يصنع نِعم الجيش، السر هو الأم، فقد وهبه الله لأمٍّ فاضلة ربته على مكارم الأخلاق وأعدته للمهمة الصعبة التي كانت تراود أحلام المسلمين من أمراء وقادة، بدأت البناء والتأسيس في طفولته المبكرة، تأخذه لصلاة الفجر لتريه أسوار القسطنطينية، وتقول له في ثقة: "يا محمد، أنت القائد الذي ستفتح هذه الأسوار، اسمك محمد وهو ما ينطبق على قول رسول الله، فأنت ستكون نعم الأمير".
وكان الطفل الصغير ينظر في عيني أمه ويردُّ مستغربًا: "كيف يا أمي أفتح هذه المدينة الكبيرة؟!".
فترد عليه الأم: "بالقرآن والقوة والسلاح وحب الناس"، وتمسك يديه وترفعهما إلى السماء داعية: "يا رب، يا عظيم، يا مجيب الدعوات، يا قادر على كل شيء، اجعل ابني هذا الأمير الذي يفتح القسطنطينية، اجعل البركة في هاتين اليدين، واجعل نصر المسلمين يأتي من خلالهما".
لم تملّ ولم تتوقف، بل استمرت تعتني بغرسها وترويه وتهذبه بالقرآن والأخلاق الكريمة وحب الآخرين واحترامهم، وتعليمه الصبر والمثابرة.
ويكبر الطفل وتكبر معه الأماني بــِ"نِعمَ القائد ونِعمَ الجيش"، ويموت والده السلطان مراد الثاني، ويتسلم "محمد" مقاليد الحكم، ويعدها أمانة وضعها الله في عنقه، ليكون تحقيق الحلم الذي غُرس في نفسه فبات مطبوعًا في كل خلية من خلاياه.
وينطلق بجيشه الذي أعدَّه ماديًّا ومعنويًّا بشكل لم تشهد مثله تلك الأيام، وحاصر أسوار القسطنطينية المنيعة، عبر طريق مفروشة بالنار والحديد، وقذائف المدافع، والأسوار المنيعة، والأعداء الحاقدين، ولكن ماذا يفعل كل ذلك أمام عناد وإصرار أمير وجيش يحملان بشرى من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأنهم "نعم الأمير ونعم الجيش"؟!، فهل هناك مجال للتراجع؟!، قطعًا لا، إنما هناك الصبر حتى النصر، ومن يتتبع تفاصيل فتح القسطنطينية من كتب التاريخ يدرك ذكاء وفطنة وحنكة القائد، وقوة الجنود المجاهدين وصبرهم وإصرارهم.
وتتحقق البشرى، وتُفتح القسطنطينية.