فزعة وعنتريات أبي جهل في غزوة بدر وقفت أمام قوة البناء ودقة التخطيط وعمق الانتماء للفكرة ووضوح الرؤية وعظمة الرسالة والهدف للجيش المقابل فانتصرت الفكرة على الفزعة، وبعيدا عن المقارنة فإن فزعة وعنتريات العرب عام النكبة أو النكسة وقفت عاجزة مدحورة مهزومة أمام العصابات المنظمة والمدرّبة للحركة الصهيونية التي أتقنت فيها التخطيط والسعي نحو الهدف بخطوات مدروسة وموزونة بشكل صحيح، حتى إذا واجهت الفزعات العربية الارتجالية كانت نتيجة المعركة محسومة.
إذا هناك مساران: مسار الفزعات الارتجالية الملغومة بثقافة واهمة مغرورة لا ترتكز على معادلات الانتصار والقدرة العملية للوصول إلى الأهداف والنتائج المرجوّة، ومسار علمي مدروس يسير حسب السنن الكونية والموضوعية التي تحشد المقدمات المطلوبة للوصول إلى النتائج المرجوّة، وهذه السنن لا تحابي أحدا وقد أعطتنا غزوة أحد درسا بليغا في هذا المجال، إذ عندما حاد المسلمون عن هذه السنن والمعادلات ونزلوا عن الجبل للغنائم حصلت المصيبة ووقعت الهزيمة.
فالنكبة حصلت بعد أن نزلنا عن الجبل وأردنا الغنيمة بحالة من الراحة والاسترخاء والركون إلى الدول العربية التي لم تكن بحال أحسن مما كنا عليها، فكان عدد الثوار ووفود جنود الدول العربية التي جاءت لصدّ العدوان لا بسيطًا بتجهيزات قديمة وتدريبات تعيسة، في مواجهة ما قدّر بخمسة وسبعين ألف مقاتل مدرب ومجهّز بأحدث الأسلحة حينها، ثم يأتي من يعلّق على العوامل الخارجية قبل أن يسبر غور الهزيمة التي سكنت أعماقنا ، والهزيمة الساحقة عام سبعة وستين سبقها تجهيز الضفة الغربية لقمة سائغة حيث خلت من الثوار والمقاومة إلا في حدود ضيقة جدا لا تتناسب مع حجم المعركة أبدا.
والإجابة عن السؤال: أين نحن سائرون؟ يجب أن نحدد موقعنا جيّدا : هل ما زلنا على الجبل (القضية والتمسك بحماية ظهر الثورة والمقاومة) أم أننا نزلنا إلى حيث الغنائم والمكاسب؟ هل ما زلنا نرابط في معادلة النصر أم أننا قطعنا شوطا في ميادين الهزيمة وتهيئتنا لنكون لقمة سائغة هنية رضية للمحتلّ الذي لم يترك فرصة لتقوية نفسه في معادلة القوة إلا واستغلها خير استغلال؟ وعلامَ نراهن؟ هل نراهن على الفزعة والهبّة الارتجالية أم على الخطة المدروسة؟ حتى إن حصلت الهبة أو الانتفاضة فهل نحن جاهزون لالتقاطها والاستثمار فيها بما يولّد خطوة نحو الانتصار؟ أم أننا محترفون في تضييع الفرص التاريخية بارتجالنا وعفويتنا السياسية الواهية؟
أعتقد أننا أمام نموذجين فلسطينيين: واحد مرابط على الجبل يبذل قصارى جهده رغم قساوة الظرف وانسداد الأفق ويدخل معادلة الردع وصراع الأدمغة والإرادات بكل ما يملك من إمكانات متواضعة بل ومتواضعة جدا إذا ما قورنت بإمكانات الأعداء. والثاني نزل عن الجبل وراهن على مفاوضات واتفاقيات كانت نتيجتها أن كبّلت العمل المقاوم وهيأت الضفة الغربية إلى ما يشبه ما قبل حرب حزيران، منزوعة السلاح ولقمة سائغة تنتظر الضم والالتهام من قبل الأعداء.
إذًا هي بكل موضوعية وتجرّد معادلة ومقدمات للضمّ وحسن الختام، وما يحمينا من ادعاءات ضغط الأصدقاء وضغط الرأي العام لدول العالم المناصرة لنا ما هي إلا ذرّ للرماد في العيون ولا تتجاوز بيانات الشجب والاستنكار أو الدعوة إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، لم يرتكز الرهان على الاعتماد على الذات وتشكيل الموازنات الرادعة كون هذا العدو لا يفقه سوى لغة القوّة وحسابات الأرباح والخسائر، أما أن نتجاهل كل سبل التمكين له على الأرض وفرض وقائع جديدة لصالحه ونسير قدما نحو حتفنا ثم بعد ذلك لا نتوقع منه الضمّ القادم فهذا حسن ظن في غير محلّه أو أن نصل إلى درجة من لا يدري أنه لا يدري حقيقة هذا العدوّ.
لقد نزلنا عن الجبل كثيرا وطويلا:
- نزلنا عن الجبل عندما سلكنا طريق المفاوضات وآمنا بأنه البديل وترجمنا ذلك إلى سلوكيات على أرض الواقع حوّلت الثورة إلى سلطة تحت ظلّ الاحتلال سياسيا واقتصاديا ومعيشيا.
- نزلنا عن الجبل بعد أن تحوّلت منظمة التحرير الفلسطينية إلى أداة من أدوات السلطة بدل العكس.
- نزلنا عن الجبل وتركنا سلاحنا هناك عندما تحوّلت القضية إلى مغنم وكعكة كل يريد أن يقضم طرفا منها وكأن الحرب قد وضعت أوزارها في حين أعداؤنا لم يتخلّوا عن عدوانهم، وما إن يخرجوا من حرب حتى يستعدوا للحرب القادمة.
- نزلنا عن الجبل بعد أن تخلينا عن وحدتنا واستشرى الانقسام فينا وأصبح واقعا لا مناص منه ولا مخرج إلا أن يشاء الله.
وليس شرطا لحدوث النكبة الجديدة أن تجتمع هذه الأربعة، واحدة فقط كافية. يجب ألا نخدع أنفسنا فأوضاعنا ما قبل النكبة الأولى شبيهة بهذه الأوضاع، والمطلوب أن نصحو من منطق الفزعات ونتجّه إلى حيث معادلات القوة وتحقيق الانتصار وعدم النزول عن الجبل مهما شدّنا بريق الغنائم وتداعيات منتصف الطريق، هذا ‘ن أردنا أن نأخذ العبرة من ذكرى النكبة ووضع حدّ للنكبات القادمة من هذا العدو الذي لا يكلّ ولا يملّ في عدوانه علينا.