قبل حوالي اثني عشر عاما وبالتحديد في عام 2008م وفي أوج انتشار مرض أنفلونزا الخنازير، تقدمت جهات علمية وطبية لمن تبقى من عائلة سايكس بطلب لاستخراج جثة مارك سايكس من قبره وذلك لأن السيد سايكس توفي بوباء الانفلونزا الاسبانية التي حصدت في ذلك الوقت أعمار ملايين البشر، و حيث إن الجثمان كان قد تم وضعه في تابوت محكم ومعزول مصنوع من الرصاص لمنع انتشار الوباء، فقد توقع العلماء وجود بقايا حية لميكروب وباء الإنفلونزا الاسبانية، وأن ذلك قد يساعدهم في البحث عن تطعيم فاعل، إلا ان جهودهم ذهبت هباء حيث وجدوا ان سقف التابوت قد انهار بفعل وزن التربة وتفتت التابوت ولم يصل العلماء لمبتغاهم.
مارك سايكس هو أحد رجلين كتبا تاريخ العرب الحديث في منطقة الشرق الأوسط، أما الرجل الآخر فكان فرانسوا بيكو وقد كانا وقت ذاك في أواخر الثلاثينيات من عمريهما، اجتمع الرجلان بتفويض من حكومتيهما وأخذا يحدّدان مناطق السيطرة لدولة كل منهما، تماما كما يقسم الورثة تركة متوفى طال انتظار موته، لكن الفارق في هذه الحالة، أن صاحب التركة لم يكن قد توفي بعد، فقد كانت الدولة العثمانية لا تزال تحتفظ بمكانها على خارطة العالم، ولكن بوادر أفولها كانت تلوح في الأفق، ولذا اجتمع الرجلان لينهشا جسدها المريض من خلال اتفاقية سرية عرفها التاريخ باسم اتفاقية سايس بيكو، وقد كان لهما ما أرادا فقد تحولت ما كانت دولة الخلافة إلى أشلاء ممزقة واستبدل علم الخلافة بأعلام ذات ألوان متعددة ونشيد وحدود لاثنتين وعشرين دولة عربية كانت كلها مجتمعة تحت ظل سيادة وعلم دولة واحدة هي دولة الخلافة.
اليوم وبعد مرور حوالي مئة عام على توقيع الاتفاقية، يذكرنا التاريخ بأحد صانعي هذه الاتفاقية، إنه مارك سايكس الذي توفي عام 1919 في باريس فور انتهاء الحرب نتيجة وباء الأنفلونزا، ولم يبقَ له أي أثر سياسي بعد هذه الاتفاقية التي شكلت خريطة الشرق الأوسط خلال قرن من الزمان، وربما الوباء المتفشي (كورونا) الذي يعيشه العالم اليوم لينبئنا بأن التاريخ يعيد نفسه، وبأن أحداثًا جسامًا وتغييرات مقبلة سيشهدها العالم كما شهدها قبل مئة عام عندما وضعت اللمسات الأخيرة على اتفاقية سايكس بيكو.
لم يكن غريبا على الدولتين الاستعماريتين في ذلك الوقت فرنسا وبريطانيا أن تحاولا تقسيم العالم العربي إلى مناطق سيطرة ونفوذ لكل منها، فهذا هو شأن الاستعمار وهذه هي وظيفته، ولكن الغريب أن تصبح نصوص هذه الاتفاقية السوداء التي ألقت بظلالها القاتمة على المشهد العربي خلال مئة عام، بمثابة نصوص مقدسة ملهمة للقيم الوطنية والانتماء الوطني، ويصبح التشبث بنصوصها من أسمى الاعمال الوطنية ويرمى بالخيانة من ينبذها أو يحاول محو آثارها، وأظن أنه لم يكن بمخيلة كاتبي هذه الاتفاقية أن تصل قداسة نصوصها إلى هذه المكانة في نفوس مَن صيغت الاتفاقية لتقضي على أحلامهم بوطن عربي حر أَبِيٍّ يجمع شتات العرب تحت راية واحدة، صحيح انه لم يُقدّر لسايكس أن يعيش ليرى نتيجة فعلته على أرض الواقع فلم يمهله المرض، ولكن أظن أن احفاده يهيمون عشقًا به ذلك أن جعل السيادة الغربية على الشرق الأوسط مهبط أفئدة الوطنيين والقوميين العرب.
وكما قال الشاعر:
عددتُكم لدفاعِ كلّ مُلِمّةٍ عونًا فكُنتم عَونَ كلّ مُلمّةِ.