اعتدنا في العالم الإسلامي الانقياد للفتوى الدينية، سواء كان الشأن المطروح موضوعًا شرعيًّا، أم يمس الفرد أو المجتمع والجماعة، ولم يترك الشرع مساحة كبيرة للتدخل بناء على الرأي الشخصي أو وجهات النظر إلا في القضايا والقرارات ذات الطابع الخاص والبعيدة عن الشؤون التعبدية.
وليس أدل على ذلك من المقولة المشهورة لأمير المؤمنين وإمامهم علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه): "لو كان الدين بالرأي لكان مسح باطن الخف أولى من مسح ظاهره"، لكن الدين لا يأخذ بالرأي وإنما بالفتوى، والفتوى لها أدلتها الشرعية، ومصادرها ورجالها؛ فلا نخالف الفتوى بذريعة الاختلاف في وجهات النظر.
ومنذ إغلاق المساجد هذا العام لم ينتبه كثير في مجتمعنا الفلسطيني حتى في بعض الدول العربية أن هذا القرار ليس حكمًا إداريًّا رسميًّا، وإنما فتوى صادرة عن علماء دين، درسوا القضية من جوانبها في ضوء الأدلة الشرعية، وفي ضوء معطيات علمية موضوعية تستشعر وجود خطر محدق يمس بالنفس البشرية التي جاء التشريع للمحافظة عليها.
ولا أريد البدء في سوق الأدلة الشرعية على أهمية هذا القرار وفي هذا التوقيت، خشية الانزلاق إلى ما أحاول أن أنهى الناس عنه من الخوض في قضايا الدين، وعدم ترك الفتوى لأهلها، ولكني في هذا المقالة العاجلة سأضع جملة من الملاحظات المهمة بشأن قضية إغلاق المساجد وهي:
أولًا: أن فتوى إغلاق المساجد قبل رمضان وخلال رمضان وربما بعد رمضان قامت على أسباب لا تزال قائمة؛ فكورونا لا يزال ينتشر في العالم أكثر وأكثر، ولم يتوصل إلى علاج ناجع للتعامل معه طبيًّا، وأن إجراءات العزل الاجتماعي نجحت في الحد من انتشاره في كثير من المجتمعات، وساهمت في تأجيل المواجهة مع المرض، ما ساعد المنظومات الصحية في كثير من البلدان مع التعامل مع أعداد محددة من المصابين لا الأعداد الإجمالية المحتملة للإصابة به.
ثانيًا: من عادة الناس اللجوء إلى أهل الاختصاص في شؤونهم كافة، تحت قاعدة اجتماعية بسيطة: "أعط العيش لخبازه"، ولكنهم يتساهلون في موضوع الإفتاء في الدين دون علم تحت مسوغ حرية الرأي وحرية الفكر وحرية الاعتقاد، أما الفتوى فكما أشرت لها رجالاتها الذين اشترط الشرع لهم مواصفات خاصة، ولا ينبغي ترك الحبل على الغارب لكل من هب ودب ليفتي في الشأن الديني.
ثالثًا: بعد مضي الأسبوع الأول من هذا الشهر الفضيل مع إغلاق المساجد، وبالتجربة الفريدة التي خضنا هذا العام بسبب "كورونا"، فتحنا مسجدًا في كل بيت، فزادت بيوت العبادة، وتحققت صلاة الجماعة والتراويح لشريحة عريضة في المجتمع، هي شريحة النساء، بعد أن كان الأمر متاحًا لعدد قليل منهن، وزد على ذلك تحمل الآباء مسؤوليتهم الدينية عن أسرهم، فوقفوا أئمة للصلاة أمام زوجاتهم وأبنائهم، وفرض الواقع عليهم ضرورة التفقه في الدين، وملء الفراغ الذي خلفه إغلاق المساجد، فانتصبوا قدوة لأفراد عائلاتهم.
الخلاصة: "الدين كل الدين في اتباع الفتوى، وليس الدين في الاجتهاد بصورة مخالفة لها دون التمتع بصفة الفتوى" -وهذا رأي بطبيعة الحال- فعاطفتنا نعم مع فتح المساجد للصلاة، ولكن الانقياد لفتاوى العلماء أهم من ذلك بكثير، للحفاظ على النوع البشري من الهلاك، وهو الأصل الذي جاءت الشريعة للمحافظة عليه، والأجر ثابت لمن اعتاد صلوات القيام والجماعة في المساجد قبل الإغلاق ويؤديها في وقتها جماعة في البيت بمن حضر.