بشيء من التفصيل بالنسبة لقطاع غزة، فقد أدى الإغلاق والحصار المستديم على القطاع منذ أعوام طويلة فاقت الــ13 عاما، وعزلة منطقة القطاع برا وبحرا وجوا، لتوفير الأمان النسبي لقطاع غزة من (فيروس كورونا)، وأدَّت تلك الحالة المستديمة (الحصار)، ومن حسن حظ شعبنا في القطاع، لنضوب حالة الدخول والخروج منه بالنسبة للناس، خصوصا القادمين من مناطق بعيدة، وبالتالي حماية قطاع غزة من الفيروس التاجي (كوفيد ــ 19).
لكن المشكلة هي أنه وفقًا لكل تقييم، إنها مسألة وقت فقط، قبل تحديد الحالات الأولى هناك التي تم تسجيل إصابتها بالوباء، وهي حالات محدودة جدا، لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة، لكن خبراء “إسرائيليين” يُقدرون (لا سمح الله) أن تفشي (وباء كورونا) في القطاع، وانفجاره أفقيا (وقد خاب ظنهم حتى الآن)، هو مجرد مسألة وقت.
بينما دعا وزير حرب دولة الاحتلال (نفتالي بينيت) لتشديد الإغلاق الكامل لقطاع غزة، وهو ما يُظهر مدى قلق القيادة السياسية والدفاعية لـ”إسرائيل” من تفشي الفيروس التاجي الجديد هناك (كوفيد ــ 19). فخطر وصول (وباء كورونا) إلى قطاع غزة وانتشاره، يعني إثارة أزمة صحية إنسانية شديدة في وجه الاحتلال أمام المجتمع الدولي بأسره، حيث من المشكوك فيه أن البنية التحتية الهشة في أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم كقطاع غزة، ستكون قادرة على مواجهة أزمة دراماتيكية ذات أبعاد خطيرة لم تتحملها دول ومنظومات سياسية كبرى في العالم.
وبالتالي فإن “إسرائيل” قلقة من أن تؤدي الأمور إلى كارثة وبائية، وصولا لكارثة اقتصادية في قطاع غزة، ومن ثم إلى فوضى عارمة سترتد عليها تماما بكل المنعكسات، خصوصا أن قطاع غزة يعاني بالأصل، وبالفعل، من انتشار الفقر والبطالة، والفاقة، والعوز. وقد كان يتأرجح في أوضاع الناس الحياتية، على حافة الانهيار الاقتصادي لسنوات.
كل هذا يحدث مع “إسرائيل” العالقة في وسط أسوأ أزمة سياسية في تاريخها، بعد انتخابات برلمانية مُعادة للمرة الثالثة وقيام حكومة متأرجحة ومُهددة بالسقوط وانفراط عقدها في أي لحظة بعد توافق نتنياهو ـــ جانتس. مع أن الحكومة لم يُعلن عنها نهائيا حتى الآن، وبالتالي لم تنل ثقة البرلمان (الكنيست).
وعليه إن التقديرات تنحو للقول إن (وباء كورونا) وإمكانية انتشاره في قطاع في غزة، يُشكِّلان الآن أكبر كابوس مرعب لــ”إسرائيل” وصنَّاع القرار السياسي والأمني والعسكري فيها. عندما يتم تخيُّل عشرات الآلاف من سكان القطاع وهم يتقدمون على طول السياج الفاصل بين مناطق عام 1967 ومناطق عام 1948، وهو ما يُمكن أن يدفع أصحاب القرار في “إسرائيل” إلى حالة من الانهيار على حد تعبير بعضهم. ويضيف آخرون من أجهزة أمن الاحتلال: “إنه طريق قصير من ذلك إلى اندلاع العنف وربما حتى انتفاضة فلسطينية ثالثة. ولا يريد الناس أن يخسروا شيئا”.
وفي هذا السياق، وفي مسعى نتنياهو لاستثمار الوضع القائم، ربطت “إسرائيل”، أي مساعدة قد تقدمها لدعم جهود قطاع غزة الصحية في مكافحة فيروس (كورونا) بمدى التقدم، الذي تحرزه في محاولتها استعادة “جنديين إسرائيليين”، فقدا أثناء الحرب المجنونة التي شنتها دولة الاحتلال على القطاع عام 2014، وفق ما أوردته وكالة (رويترز) العالمية للأنباء.
وبحسب وكالة (رويترز)، قال وزير “الجيش الإسرائيلي” (نفتالي بينت): “عندما يكون هناك نقاش حول المجال الإنساني في قطاع غزة، فإن إسرائيل لها أيضا احتياجات إنسانية، تتمثل أساسا في استعادة من سقطوا (في الحرب)”.
إنه كلام غير متوازن، وينم عن عنصرية عالية مزروعة في “إسرائيل”، وعند وزرائها، عندما تتم مقايضة الحاجات الإنسانية والصحية لمليوني مواطن فلسطين بمصير جنديين “إسرائيليين”، ويتم أيضا تناسي آلاف الأسرى الفلسطينيين.
وبقي أن نقول: إن الاقتراح “الإسرائيلي” بطرح وتقديم وتوريد أجهزة التنفس الاصطناعي لقطاع غزة مقابل معلومات عن الأسرى من جنود الاحتلال يُمثِّل ذروة الوضاعة والخساسة من دولة الاحتلال التي تزج في سجونها ومعتقلاتها الآلاف من الأسرى الفلسطينيين تحت ظروف صعبة بما في ذلك خطر انتشار الوباء بينهم.
وإذا كان في “إسرائيل” ما زال هناك أي ذرة من مشاعر الإنسانية تجاه سكان قطاع غزة، على الأقل في فترة وجود (وباء كورونا) في المنطقة والعالم ككل، فهي كانت ستلغي فورا كل المحظورات وتسمح بتقديم مساعدة طبية واقتصادية غير محدودة للقطاع.
ولكن في دولة الاحتلال بقي هناك أمر واحد على حاله عند أصحاب القرار، وهو إدامة الحصار على قطاع غزة وعلى عموم سكانه الرازحين تحت وطأة الظروف القاسية والصعبة قبل ولادة هذا الوباء الخطير.