من منكم سمع خرير الدموع على وجنات محرري صفقة وفاء الأحرار عندما دفنوا جثمان رفيقهم القائد القسامي الكبير مازن فقها؟ ذاك الرجل الذي تفوق في رسم خارطة فلسطين بالدماء والتضحيات العظيمة.
لو أعرف من قام بتنظيم مازن في صفوف كتائب القسام فإنني سأقبّله مليون مرة ومرة، لأن فلسطين تعشق أمثال مازن الذي يسترخص كل شيء من أجل وطنه وقضيته، فلا يكل ولا يمل، فهو كالنهر المتدفق في العطاء الذي لا ينضب، حتى في آخر لحظات حياته، كان يُرتّب أوراقه كما في كل مرة لكي يصيب الاحتلال في مقتل، لا يبحث عن القتل بقدر ما يبحث عن الحرية الضائعة لشعبه ووطنه ومقدساته.
كنت أقول عن نفسي قويا أمام الصدمات؛ ولكنني أول من أمس أعلنت هزيمتي أمام دموعي التي انهارت بعد سماع كلمات زوجته الصابرة التي ناطحت الجبال في شموخها وصمودها، فاستشهاد مازن لم يكن حدثا عاديا، ولن يمر مرور السحاب، بل سيكون له ما بعده.
في مجتمعنا الفلسطيني الغزاوي والضفاوي والمقدسي على حدٍ سواء يمتشق الرجل والمرأة أيضا حين يُستشهد فلذة كبديهما سيف الكرامة والعزة ليُعلّم الحاضرين كيف تكون التضحية من أجل تحرير الوطن، هلا رأيتم التحية العظيمة التي رفعها والد الشهيد باسل الأعرج حينما وُوري جثمان ابنه التراب في الضفة المحتلة؟ وهل سمعتم بآذانكم ماذا قال والد الشهيد مازن فقها عقب استشهاد نجله؟ وهل رأيتم من قبل خنساء فلسطين أم نضال فرحات كيف دفعت ابنها إلى الشهادة واشترطت عليه ألا يعود إلا منتصرا؟ وبماذا تصفون أهل القدس ورجالها ونساءها وأطفالها حينما يواجهون بصمودهم وبسالتهم وعنفوانهم هدم منازلهم وقلعهم من جنباتها الطاهرة من قبل الاحتلال اللعين؟ نحن يا معشر العالمين مخلوقون من طين مثلكم تماما، ولكن يبدو أن عجينتنا تختلف، يبدو أن عجينتنا محشوّة بالعزّة الزائدة والكرامة التي لا تنقطع، فمن منكم يستطيع أن يقنعني كيف لامرأة تفقد ابنها أو زوجها أو أخاها وفي ذات الوقت تزغرد؟! زغاريد مخلوطة بالدموع، قد تكون دموعا قاسية للوعة الفراق ولكنها عزيزة جميلة بل وحلوة المذاق.
تمنيت أمس لو أنني طائر يطير بجناحين حيث طوباس مسقط رأس مازن البطل، أقبّل رأس وجبين والد الشهيد، ذاك الرجل الذي وضع نطفته ليجيء لنا بشهيدٍ يحمل هذا القدر من العطاء الجارف، عطاءٌ بدأ بحفظ القرآن الكريم كاملا منذ الصغر، ثم حسن الخلق، وتفضيل الدعوة والهداية، فالذكاء والفطنة، وليس أخيرا امتشاق البندقية الطاهرة التي لا تعرف طريقا إلا طريق تحرير فلسطين من الاحتلال الذي دنّس الأرض الفلسطينية ومقدساتها في كل مكان.
أواه يا مازن، لقد أتعبت من جاء بعدك، كما أتعبت من سبقك من رفاقك الأبطال، فسليم حجة وقيس عدوان وكريم مفارجة وهاشم النجار وحامد أبو حجلة ومهند الطاهر وطاهر جرارعة وسعيد بشارات وعاصم ريحان ومحمود أبو هنود ويوسف السوركجي ومحمد الغول ورفاقه والقائمة تطول، كلهم ساروا على ذات الدرب وحملوا البندقية ولكنهم مضوا ولم تسقط الراية ولم تُهزم البندقية! ذاق مازن العلقم ليس من الاحتلال، ولكن العلقم كان عندما طورد من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، حيث عاش أياما طويلة مؤلمة في سجون السلطة لثنيه عن طريق المقاومة في إطار التنسيق الأمني وخدمات "التعايش" بين السلطة والاحتلال.
قد يتراجع الأسرى والمعتقلون في أي دولة في العالم حينما يتم اعتقالهم بسبب قضية ما، ولكن هذه النظرية تتكسر هنا في فلسطين، فالشهيد مازن فقها ورغم مكوثه 40 يوما داخل العزل الانفرادي في سجون الاحتلال وأكثر من 90 يوما في أقبية التحقيق اللعينة، ورغم تعرضه لجميع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، ثم صموده في السجون لأكثر من 10 سنوات متواصلة؛ إلا أنه خرج أقوى عودا وأشد عزيمة وأكثر إصرارا على مواصلة الطريق نحو التحرير والمقاومة.
ربما توصف مرحلة ما بعد الإفراج عن الشهيد مازن ورفاقه في صفقة وفاء الأحرار بمرحلة الربيع بالنسبة لهم - على اعتبار حريتهم المنشودة والمعطرة بالتضحيات الجسيمة - فقد احتضنتهم غزة برجالها وشبابها وأطفالها ونسائها، أحبتهم وضمتهم بدفء وعطف لا يتوقفان، ليس منة منها عليهم، ولكن لأنه واجب عليها كونها أرضا عزيزة كريمة.
ما هي الطريقة التي كنتم تنتظرون رحيل مازن فقها بها؟ هل كنتم تريدون أن يموت على فراشه كما تموت البعير؟ أم تريدونه يرحل بطريقة عزيزة كريمة توقظ همم الرجال في الضفة والقدس الأبطال، وتنفخ الروح في جسد المقاومة الهادئ هناك مؤقتا، نعم، إنها طريقة العزة والكرامة وطريق الشهادة والشهداء، لقد مضى الشهيد مازن بأيادٍ غادرة تقف خلفها أجهزة المخابرات الصهيونية، ولكنه ترك وراءه حملا ثقيلا، لقد خلّف إرثا من التضحيات ومهمات جساما مقصدها تحرير الأرض والإنسان.