الغافلون ليسوا مغفلين، المغفلون هم من فقدوا القدرة على التمييز لقلة الوعي والتجربة، أما الغافلون فلديهم الوعي والتجربة، ولا يريدون التمييز، هم غافلون عن قصد وإرادة، ولهم مصلحة في الغفلة.
الغافلون يتناقلون أخبار المسؤول الأول، وتصريحاته، ويتنفسون الهواء من خياشيم المسؤول، وهم يعرفون أن بقاءهم في مناصبهم وفي منافعهم مرهون ببقاء هذا المسؤول، لذلك هم يدافعون عن المسؤول، وكأنه الوطن، ويتناقلون تصريحات المسؤول وكأنها الحرية والعدالة والنصر، ويهاجمون كل منتقد لسياسة المسؤول بكل ما أوتوا من بطش وتسلط، فهم يدافعون عن أنفسهم التي شكلتها إفرازات المسؤول السياسية.
الغافلون بيننا قلة، يعرفون أنفسهم، ويعرفهم الناس، ويعرفون أن الاستيطان اتسع، وأن الأرض تضيق على أصحابها، وتضيع، وأن المجتمع يتمزق، وأن المستقبل غامق غامض، ويعرفون أن لا حول ولا قوة في يد المسؤول إلا في مجال الترقيات والمناصب والمكاسب والانتفاع الشخصي، لذلك هم يغمضون العين عن كل مصلحة عامة، ويفتحون قلوبهم تنبض بأهواء المسؤول.
الغافلون يعرفون أن القدس العربية تتلوى بين أنياب الغاصبين، الذين دمروا تاريخها الإسلامي، ونقشوا على حجارة القدس تاريخًا عبريًّا مزيفًا، ويعرف الغافلون أن الفعل الإسرائيلي اليومي لا يتوقف عند ضم الخليل والأغوار والجليل، وتغيير الجغرافيا، ومع ذلك يقعدون عن الفعل، ولا يحضون على فعل، ويحاربون من يفكر في الفعل المضاد لفعل الغزاة، ويكتفي الغافلون بالتهريج بأن القدس عاصمة أبدية لدولة فلسطين.
الغافلون يعرفون أن لا دولة فلسطينية في الأفق، وأن معالم الدولة قد اختفت تحت معاول المستوطنين، ويعرفون أن الدولة التي قامت على ورق احترقت بشعلة الاحتفال الأول قبل عشرات السنين، ويعرف الغافلون أن الوجود الفلسطيني مهدد في كل زاوية من حياته، وأن ما هم فيه من بذخ وترف وسيارات فارهة لا يتناغم مع فكرة الشهادة، ولا يتوافق مع المبدأ الذي من أجله كان الشهداء، ومن أجله ضاعت سنوات عمر الأسرى، ومع ذلك، يثغو الغافلون: نحن على درب الشهداء، ونحن عشاق الأسرى.
الغافلون سيصلبون قريبًا على جدار الواقع المرير، وعلى سياج القرى والمدن التي ستكتشف أن لا سياسة فلسطينية، ولا خطة عمل للنهوض بالواقع، ولا مشروع استراتيجي، ولا آلية مواجهة لمخططات العدو، ولا أفق للمستقبل، ولا رؤية مشتركة، ولا توافق وطني، ولا شراكة سياسية، ولا حضور للمؤسسات، ولا تأثير للاجتماعات، وأن فلسطين وتاريخها قد صارت خرقة بالية بيد المجهول، يفترشها المسؤول بساطًا أحمر تحت أقدامه، وينهشها ذوو المصالح بأنيابهم الزرقاء.
الغافلون هم أول من سيدفع الثمن، لأنهم استجلبوا الوسن، وتجاهلوا تقلبات الزمن.