فلسطين أون لاين

التأثيرات الاقتصادية لوباء كورونا

لا أحد يدري على وجه اليقين ما الذي تخفيه الأيام بخصوص عواقب انتشار وباء كورونا على السياسة والاقتصاد والمجتمع في مختلف بقاع الأرض، ملايين البشر باتوا قيد الإقامة الجبرية في بيوتهم، ضحاياه من الموتى تجاوزوا حاجز مائة ألف ومن المصابين اقتربوا من حاجز المليونين، نصف مليار إنسان في طريقهم إلى المجاعة، مزيد من العاطلين عن العمل، إنه الركود الأسوأ منذ 1929م. 

قلنا في مقال سابق إن التأثيرات الاقتصادية للوباء تعتمد على المدة الزمنية التي سوف تستغرقها عمليات التغلب عليه والتعافي منه، في الواقع، نحن غير قادرين على تحديد كيف ومتى سيحدث ذلك، لقد كشفت الأزمة هشاشة الأنظمة وحدود المعرفة والقوة. 

دعونا نسلط الضوء قليلًا على الضرر الاقتصادي الناجم عن الوباء في البلدان النامية، يرى خبراء أنه بينما يمثل فقدان الأرواح الجانب الأكثر مأسوية؛ إن التأثير على المدى الطويل يتمثل في الركود الاقتصادي الذي لم يأت بعد.

ولما كانت اقتصادات هذه الدول أقل استخدامًا للتكنولوجيا، وأكثر اعتمادًا على العنصر البشري، فإن تدابير الوقاية والسلامة تشكل قيدًا عليها، ما يورثها الكثير من العواقب: ضعف النمو، وشح الأموال المتاحة لأولويات التنمية، وإعاقة مكافحة الفقر المدقع، في غضون ذلك، تتعطل سلاسل التوريد وتنتشر حمى الشراء، ويرافقها ظاهرتا الاكتناز والاحتكار، كل ذلك يؤدي إلى تذبذب أسعار السلع الأساسية، الأمر الذي يضر الطبقة الوسطى والقطاعات الفقيرة في المجتمع، هذا ويواجه العمال، وخصوصًا أولئك الذين يعملون بأجر يومي، أو يزاولون أعمالًا متدنية الأجور؛ أزمة دخل حادة، وإذا ما استمر الوباء حتى أوائل الصيف، فلن يتمكن العمال من تغطية نفقاتهم، أو قد لا يحصلون على فرص مواتية للتعويض عن مصدر دخلهم المفقود.

في الواقع، على البلدان النامية أن تتحرك سريعًا من أجل اتخاذ خطوات سياسية ملموسة لحماية شعوبها والحد من الضرر لاقتصاداتها؛ وعلى وجه الخصوص تعزيز الإنفاق على الصحة، وتعزيز شبكة الأمان (التحويلات النقدية والخدمات الطبية المجانية للضعفاء والفقراء)، ودعم القطاع الخاص (الائتمان القصير الأجل أو الإعفاءات الضريبية أو الإعانات)، ومواجهة اضطرابات السوق المالية (خفض أسعار الفائدة وضخ السيولة).

تحتاج هذه البلدان -الفقيرة منها خاصة- إلى خطة إنقاذ اقتصادي بموازنة لا تقل عن 2.5 تريليون دولار لوقف الوباء ومنع الانهيار الاقتصادي العالمي، وينصح بعض باتخاذ التدابير التالية: تعليق وإلغاء ديون البلدان النامية، وزيادة المساعدة من الدول الغنية لدعم الدول الأكثر فقرًا، والوفاء بالتزامها بنسبة 0.7٪ من الناتج المحلي الإجمالي.

أعلنت مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حزم دعم مالي لمساعدة هذه البلدان على التغلب على الأزمة الصحية، والحد من الأضرار الاقتصادية (نحو 12 مليار)، على مرحلتين: الأولى تعزيز النظم الصحية وتقليل الضرر على الناس والاقتصاد، الثانية: التركيز على الآثار الاقتصادية والاجتماعية.

يشكل وباء الفيروس التاجي مصدر قلق للفلسطينيين عمومًا، ولسكان قطاع غزة على وجه الخصوص، فالقطاع من أكثر مناطق العالم كثافة سكانية (وبذلك قد ينتشر الوباء كالنار في الهشيم لا قدر الله)، ويعاني منذ سنوات طويلة حصارًا خانقًا وشبه فصل عن باقي المناطق الفلسطينية، هذا ويشهد أزمات مركبة في البنية التحتية والخدمات الأساسية وفي القدرة على توليد فرص عمل لائقة ومستدامة، يعتمد نحو 80% من سكانه اعتمادًا دائمًا على المساعدات الإنسانية، وتتجاوز نسبة العاطلين عن العمل 50%، وهي من أعلى النسب على مستوى العالم، 72% للنساء، و70% للشباب، لا سيما من خريجي الجامعات.

دفعت هذه الظروف المعيشية الهشة كثيرين لتبني إستراتيجيات سلبية للتكيف مع الوضع الراهن، من قبيل تقليل استهلاك الأغذية وتنوعها، ما تسبب في سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي الذي بلغت نسبته 40% في عام 2019م، واستنادًا إلى تقرير الاحتياجات الإنسانية الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، إن واحدًا من كل شخصين أي ما يزيد على مليون شخص في القطاع يعد فقيرًا، منهم ما يزيد على 400 ألف طفل.

طبقًا لأحدث الدراسات والتقارير إن أثر أزمة كورونا على القوى العاملة في قطاع غزة بدأت تتضح معالمه؛ إذ: تكاد تصل البطالة إلى نحو 75%، وأكثر من 15% من أصحاب الأعمال استغنوا عن 75 % من عمالهم، وأكثر من 80% من أصحاب الصالات والمطاعم والمقاهي استغنوا عن العمال بشكل كامل، وتراجعت الحركة على المنطقة الصناعية بواقع 40% عن الحركة المعتادة، وسجل ارتفاع على أسعار المنتجات، خاصة المنتجات الغذائية بنسبة 10-15%، وثمة توقع أنها قريبًا سوف تنفد من الأسواق إذا ما استمرت الأزمة؛ إذ توجد تعقيدات في سلسلة التوريدات للعقود المستقبلية للواردات من الصين والاتحاد الأوروبي، هذا وتعد أكثر القطاعات الاقتصادية تضررًا قطاع السياحة والمطاعم الشعبية، والملبوسات والنسيج، والمقاولات والحرف المرتبطة بها، والنقل والمواصلات، والتعليم الخاص.

طبقًا لتقديرات سلطة النقد الفلسطينية ثمة سيناريوهان: الأول استمرار الأزمة مدة أربعة أشهر، والثاني استمرارها مدة ستة أشهر، في كل الأحوال سوف يتأثر الاقتصاد الفلسطيني سلبًا لا محالة، من المحتمل ظهور أزمة سيولة، وركود اقتصادي.

الاقتصاد الفلسطيني يعمل في بيئة شديدة المخاطر والتحديات تسببت خلال السنوات الماضية بمجموعة من الأزمات والصدمات، السياسية والاقتصادية، على حد سواء، كان آخرها أزمة إيرادات المقاصة الفلسطينية مع الجانب الإسرائيلي في عام 2019م، وفقًا لتقديرات سلطة النقد أيضًا، يمكن رصد خمسة مصادر رئيسة لمخاطر محتملة يمكن أن تنتقل للاقتصاد الفلسطيني عامة والقطاع المصرفي خاصة، وهي: الاستثمارات الخارجية، ومعدلات الفائدة، وأسعار الصرف، وأسعار النفط والمواد الأولية، وتدفقات الدخل والتحويلات الجارية في ميزان المدفوعات.

من الدروس البليغة للجائحة أنه كان بإمكان الحكومات تجنب الأزمة وتأثيراتها الاقتصادية السلبية لو أحسنت مواجهتها صحيًّا واجتماعيًّا من حيث الإنفاق والتخطيط المسبق والأوفر، اليوم تضطر هذه الحكومات إلى دفع من 6 إلى 28 % من الناتج المحلي حزمًا للإسعاف والمساعدات.

يقول المستشار الاقتصادي للرئيس الفلسطيني: "ثمة تحدٍّ كبير، فهل يمكن تحويل هذا التحدي إلى فرصة، بالتخطيط لمعالجة الآثار الاقتصادية الطارئة، والتأسيس لحل متكامل لمعضلات الاقتصاد المتراكمة، ضمن رؤية وطنية شاملة، عنوانها الاعتماد على الذات؟"، هل التخطيط يكفي حقًّا مثلما يقترح السيد المستشار، لا أظن، ولكن دعونا نفحص ذلك في مقالات تالية.