ما إن ترددت في وسائل الإعلام أخبار عن حراك جدي متعلق بمفاوضات إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال حتى عادت بشائر الأمل لتسكن قلوب أهالي الأسرى والأسيرات، وخصوصاً أصحاب الأحكام العالية ممن تنعقد آمال حريّتهم على عمليات التبادل وحسب.
بغض النظر عن حالة أسرى الاحتلال لدى حماس في غزة، وحتى لو افترضنا أنهم جميعاً أموات، فإن ما لدى حماس كنز قد لا يتكرر توفره على المدى المنظور فيما لو أُنجزت الصفقة، وهو ما يتطلب حذراً وإصراراً عالييْن لدى الفريق المفاوض في مطالباته، خصوصاً في ظلّ قناعة الاحتلال بأن المبادرة التي طرحها يحيى السنوار مؤخراً قد تعني استعجال حماس لإتمام الصفقة وإغلاق هذا الملف.
لا شكّ أن هناك خبرة غنية متوفرة لدى فريق إدارة عملية التفاوض حاليا، بعد أن تراكم فيها ما تحصّل من دروس تجربة مفاوضات الصفقة السابقة (وفاء الأحرار)، ولا شك أن القائمين على أمر التفاوض سيكونون منتبهين لكل الثغرات التي يمكن أن يستغلها الاحتلال لتعطيل الإفراج عن أسماء معينة، وللتقليل من وزن الصفقة. ومع ذلك لا بأس من التذكير الدائم بكون من أمضوا أعواماً طويلة في السجن، ومرّ على اعتقالهم أكثر من خمسة عشر عاماً لهم الأولوية في تصدر لائحة الأسماء، وخصوصاً إن كانوا محكومين بالمؤبد، بمعنى أنهم لن يتحرروا بعد عام أو بضعة أعوام.
إنما من جهة أخرى، من المهم التحلي بالواقعية عند تحديد المكان الذي سيتحرر إليه ذوي أحكام المؤبدات، وقد تحدث كثيرون مؤخراً وسابقاً حول الموضوع، وهنالك رأي يرى أن تحرّر أسرى الضفة الغربية والقدس ومناطق الـ 48 إلى غزة أو خارج فلسطين أمر يقدح في قيمة الصفقة، فيما يرى آخرون أن تحرر هؤلاء الأسرى إلى مناطقهم التي ما تزال تحت الاحتلال مغامرة، قد تكون نهايتها إعادة اعتقالهم.
وأذكر أن جدلاً طويلاً قد دار حول هذا الأمر عقب عملية التبادل الماضية، وتحديداً بعد أن أعاد الاحتلال اعتقال من تحرر منهم إلى الضفة والقدس، على إثر عملية أسر المستوطنين الثلاثة في الخليل، وبما أن التجارب تفرز دروسها، فلا بد أن يكون ما جرى مع محرري صفقة وفاء الأحرار المعاد اعتقالهم درساً واقعياً لا يجوز إغفاله استجابة لمنطلقات عاطفية إزاء هذا الموضوع.
بمعنى أن الرأي القائل إن مكان التحرر ينبغي أن يكون مسقط رأس الأسير ليس من الثوابت المقدسة، ولا يصحّ أن يكون معياراً مرهقاً للمفاوضين، بل ينبغي النظر بواقعية كبيرة إلى نتائج الإفراج عن أسير محكوم بالمؤبد إلى مناطق يسيطر عليها الاحتلال، لأنه قبل كل شيء ما من ضمانة بألا يُقدم الاحتلال على اعتقاله مجددا، ولا شيء يلزم الاحتلال بألا يفعل حتى لو كان ذلك من بنود الصفقة، فلا حماس ولا الجهات الوسيطة في الصفقة هي المسيطرة على الضفة والقدس، لكي تمنع المحتل من إعادة اعتقال المحررين، والسلطة الفلسطينية بدورها ستظلّ عاجزة عن حمايتهم أو التصدي لإعادة اعتقالهم، هذا أولا.
أما ثانيا، فالمحرر إلى هذه المناطق سيكون مكبّل اليدين ولن يكون بمقدوره استئناف نشاطه المقاوم أو حتى الوطني بأضعف الإيمان، لأن هاجس الخوف من إعادة الاعتقال سيظل قائما، بمعنى أنه لن يكون مكسباً للحالة المقاومة في الضفة والقدس وداخل الخط الأخضر، بل قد يفضي ذلك إلى تكبيل أيدي المقاومة المنظمة (أي التي تقف خلفها تنظيمات) في تلك المناطق.
أما ثالثا، فالتجربة السابقة تقول إن المحررين إلى غزة أو الخارج تمكنوا من استئناف حياتهم وإفادة قضيتهم ومشروعهم المقاوم على نحو أجدى بكثير مما كان عليه حال من تحرروا إلى الضفة، ثم أعيدوا إلى السجن من جديد.
وأخيراً فإن التحرر إلى غزة لا يجوز أن يُسمّى إبعادا، فهي –بالنظر إلى بيئتها السياسية والأمنية- المساحة التي ما تزال ناهضة بأعباء المقاومة، وهي الأمينة على الثوابت الفلسطينية، والممثلة لما يجب أن يكون عليه الفلسطيني في صراعه مع الاحتلال.
هناك من يرى في المقابل أن التشجيع على تحرر الأسرى إلى غزة أو الخارج سيفرغ الضفة والقدس من العناصر الوطنية المقاومة، غير أن الحديث هنا لا يتناول كل أسير لدى الاحتلال ولا حتى أصحاب الأحكام العالية المحددة، بل المقصود أسرى أحكام المؤبدات، فهؤلاء سيظلون مغيبين عن التفاعل مع بيئتهم في كل الأحوال، إن خرجوا وظلوا مقيدين بهواجس العودة إلى السجن، وإن أعيد اعتقالهم، وإن فضلوا البقاء في السجن على الخروج إلى مكان آخر.
أدرك أن هذه المسألة لا يُحسَم النقاش فيها برأي أو مقالة، لأن الآراء فيها كثيرة كوْن منطلقاتها متعددة، ولذلك لا بد أن يكون صاحب كلمة الفصل فيها الأسير نفسه، فهو صاحب القضية الأهم، وهو الذي ينفق عمره في السجون، وهو الذي يعي أكثر من غيره معنى أن الحرية إلى أي مكان تظلّ مفضلة على الموت البطيء داخل السجون، وأن ابتغاء هذه الحرية لا يطعن في جوهر بطولته أو يشوّه مفهوم تضحيته.