الصهيونية السياسية انطلقت جديًّا أواخر القرن التاسع عشر، وفي كل الأوقات لم تكن القيادة الصهيونية حريصة على إقامة «دولة ثنائية القومية»، وكان هدفها الحقيقي ما ردده ديفيد بن غوريون أواخر الثلاثينيات بالقول: «إننا سوف نلغي التقسيم، ونتوسع إلى فلسطين كلها بعد تشكيل جيش كبير غداة تأسيس الدولة». «من غير الممكن تصور إجلاء عام بدون إكراه، وإكراه وحشي، سارعوا إلى إقامة دولة يهودية على الفور، وإن لم تكن على الأرض كلها. الباقي سيأتي مع الزمن، لا بد أن يأتي».
وبالفعل استمرت (إسرائيل) في ترحيل الفلسطينيين وتهجيرهم، وهي تواصل بناء المستوطنات، وتسلب الحقوق، وتفتك الأراضي، ولا مجال للسلام من هذا الموقع ما دام الطرف الإسرائيلي يرفض التعايش السلمي، ويُصر على البروز ككيان عدواني وظيفي لا يعترف بالحدود، وله طموحات استعمارية وتوسعية لا تنتهي وتتجاوز خطوط الهدنة المُعلن عنها مع دول الطوق العربية، ولم تكن أي حكومة إسرائيلية مستعدة لمنح الفلسطينيين دولة قابلة للحياة وحتى العرض الذي قدمه رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك، لم يكن ليعطي أصحاب الأرض إلا مجموعة «بانتوستونات» مُقطعة الأوصال ومنزوعة السلاح تتحكم بها (إسرائيل)، وهو تقريبا المقترح نفسه، الذي تضمنته «صفقة القرن» التي احتفل بها ترامب ونتنياهو، تكرارا لمعازل جنوب افريقيا العنصرية، وإرساء لنظام الأبارتهايد.
الذاكرة أداة بالغة القوة لحفظ الهوية، وهي واحدة من الحصون الرئيسة ضد «الإمحاء التاريخي» والتزييف المفضوح، بشكل يجعلها أداة للمقاومة، تمنع نسيان فلسطين، وتُجدد في ذكرى يوم الأرض استحالة التفريط فيها. وهم يعلمون منذ وقت مبكر بأنهم افتكوا أرضا ليست لهم، ويؤسسون للتضليل والمغالطة، رغم وضوح فعل الاحتيال وعملية السطو التاريخية التي قاموا بها، وعبّر عنها قادتهم الأوائل في مكاشفات علنية بمثل ما قاله بن غوريون لناحوم غولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي 1949: «لو كنت قائدا عربيا لما تصالحت قط مع (إسرائيل). إنه لأمر طبيعي، لقد أخذنا وطنهم، نحن نأتي من (إسرائيل)، ولكن منذ ألفي سنة، وما الذي يعنيه ذلك بالنسبة إليهم؟ كانت هناك معاداة للسامية، نازيو أوشفيتز، ولكن هل كان ذلك ذنبهم؟ لا يرون سوى شيء واحد، جئنا إلى هنا وسطونا على بلدهم. ما الذي يجعلهم يقبلون بذلك؟». وإلى الآن يعمل القادة المتتالون في (إسرائيل) بوصفة رابين، وهي إخضاع سكان الأرض الفلسطينية بالقوة تحت ضغط اقتصادي وسياسي ومالي، لكي يقبلوا بالشروط الإسرائيلية من موقع الضعف والانكسار. وهي ممارسة ترسّخ إنكار طموحات الفلسطينيين الوطنية وتَحُول دون انبثاق أي دولة فلسطينية. وفي الأثناء يُلام الجميع ممن يطالبون بسلام عادل أو يُلمحون لفكرة عدالة القضية، فحتى هيلاري كلينتون تم انتقادها بشدة أمريكيا وإسرائيليا في ربيع 1998، عندما قالت في سياق حديثها عن الشرق الأوسط «من شأن إيجاد دولة فلسطينية أن يكون في مصلحة السلم على المدى الطويل، دولة حديثة فاعلة مثلها مثل سائر الدول الأخرى».
ممنوع انتقاد سياسة (إسرائيل) وإن كان المصدر يهود أمريكا فهم معرضون بدورهم للتهجم. ويكفي التذكير بما حدث مع الرئيس «القوي» السابق للمؤتمر اليهودي العالمي إدغار برونفمان الأب كما نعته كلينتون، والذي تعرض للاتهام «بالغدر والخيانة» لمجرد أنه وجه رسالة إلى الرئيس بوش أواسط 2003 ملتمسا منه الضغط على الحكومة الإسرائيلية من أجل وقف بناء «السور الأمني»، واُعتُبر تصرفه «مشينا وفاحشا» في نظر المدافعين عن (إسرائيل)، فليس هناك بالمطلق أي مجال في التيار اليهودي الرئيسي، لأي «اعتراض فعال» على سياسات تل أبيب، خاصة تلك ذات العلاقة بالأمن، وتلك مسارات تندرج ضمن طرق التأثير في عملية السياسة والتخطيط للولايات المتحدة من قبل اللوبي الإسرائيلي، وهي واردة نظرا للإدارة الموزعة داخلها على النحو الذي توسعت فيه أبحاث جون ميرشايمر من جامعة شيكاغو وستيفن والت من جامعة هارفارد.
ومازال العالم يشاهد (إسرائيل) المُثقلة بجرائم الماضي والحاضر، تندفع بقوة نحو عنف متواصل، ترى أنه كفيل بالقضاء على الطموح الفلسطيني في الاستقلال، وتحقيق السلام. والتطورات الحاصلة في الأشهر الأخيرة تؤكد مرة أخرى أن الطرف الإسرائيلي يرفض التعايش السلمي، رغم التزام السلطة الفلسطينية بمسار التفاوض، ومراكمتها لما قبلت به منظمة التحرير، واعتبرته في مرحلة ما «سلام المنتصرين»، سيرا وراء الأمل الظاهري بإنقاذ بعض بقايا السلطة العاجزة، الأمر الذي استغله صناع الحرب في تل أبيب، ووجدوا فيه سبيلا لتشتيت القضية الفلسطينية، وتجاهل قرارات الشرعية الدولية، والعبث باتفاقيات السلام، التي أطلقت يد الكيان الصهيوني لينفذ عملياته العسكرية بذرائع مختلفة، بالتوازي مع تسريع نسق بناء المستوطنات في القدس والضفة الغربية.
ويسعى هؤلاء عبر سرديات تاريخية زائفة لمحو فكرة أن إيجاد (إسرائيل) في 1947 انطوى على سلسلة من أعمال التطهير العرقي، بما فيها من مذابح وإعدامات وعمليات اغتصاب من جانب الجماعات اليهودية، وما وصل من فظاعات وانتهاكات ليس سوى «قمة جبل الجليد»، وما خفي أعظم، في السجلات الإسرائيلية والوثائق التي لم يكشف عنها حتى الآن. مع ذلك ستستمر المقاومة باعتبارها النتيجة الحتمية للاحتلال، إدراكا لنوايا (إسرائيل) العدوانية وأطماعها التاريخية.