يمر بنا الزمن وتدور دورته، وتحيط بنا أقدار الله (سبحانه وتعالى)، وتمضي بنا تلك الأقدار إلى مشيئة الله لتريَ الإنسان في نفسه عبرًا وعظات تذكره بأنه مخلوق ضعيف من مخلوقات الله خاضع لقدرته ومشيئته، وكلما دارت أحداث التاريخ يجد فيه الإنسان حين يتفكر تشابهًا وتناظرًا في مجريات تلك الأحداث، مع اختلاف في الظروف والأوقات والتفاصيل، ولعل ما أسطره هنا من كلمات يعبر عما جال في خاطري من ترابط بين حدثين الفارق الزمني بينهما نحو مائة عام.
أبحرت سفينة تايتنك في رحلتها الأولى عام 1912م من إنجلترا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت حسب ما روجت الشركة المصنعة لها سفينة ضد الغرق، وقد رسخ ذلك في أذهان ركابها وطاقمها، إلى درجة أن ربان السفينة وطاقمها رفضوا أن يحملوا على سطحها قوارب نجاة تناسب عدد المسافرين، لاعتقادهم الجازم أن سفينتهم صممت بحيث لا يمكن لها أن تغرق، ففضلوا استغلال سطح السفينة من أجل تجهيز أماكن استجمام لهو لركابها.
وفي يوم 15 أبريل من عام 1912م في شمال المحيط الأطلسي بعد أربعة أيام من بداية رحلتها الأولى من مدينة ساوتهامبتون إلى نيويورك غرقت تايتنك، وعلى متنها نحو 2224 شخصًا حينما اصطدمت بجبل جليدي الساعة 11:40 دقيقة مساءً، وغرقت بعد ساعتين وأربعين دقيقة في الساعة 2:40، ما أدى إلى موت 1500 شخص، وكانت كارثة من أكبر الكوارث المميتة.
ومن دراما المشهد أن أول سفينة إنقاذ وصلت إلى موقع السفينة تايتنك بعد نحو تسع ساعات من إطلاق نداء استغاثتها، وكان قد مر على غرق تايتنك نحو الساعة والنصف.
تحل ذكرى غرق تايتنك بعد نحو أسبوعين، وهي مدة الحجر الصحي المقرر طبيًّا للمصابين أو المشتبه بإصابتهم بفيروس كورونا، ولعل أوجه التشابه الكبيرة بين مأساة تايتنك وما تعايشه البشرية اليوم من مأساة ليهيئ لك أن التاريخ يعيد نفسه، ولكن بصورة أخرى تتشابه في مجرياتها وتختلف في تفاصيلها.
فقد صممت تايتنك سفينة ضد الغرق، وكأنها تحدٍّ لقدرة ومشيئة الله، تمامًا كحال البشرية اليوم التي ظنت أنها قادرة على كل شيء، فجاءها بأس الله (سبحانه وتعالى) من حيث لا تحتسب، وسخر أضعف مخلوقاته كورونا ليحطم هذا الكبرياء تمامًا، كما حطم جبل الجليد كبرياء تايتنك.
لم يكلف مصممو تايتنك أنفسهم لوضع مزيد من قوارب النجاة على متنها، وفضلوا أن يجعلوا أماكنها مناطق استجمام ولهو، وكذلك لم تول البشرية صحة الإنسان ما يلزم من الإنفاق، وفضلت الإنفاق على وسائل اللهو والمجون حينًا، ووسائل الدمار والقتل والفتك أحيانًا، لذا انهارت الأنظمة الصحية ولم يجد المرضى أجهزة تنفس تنقذهم من الموت، تمامًا كما حدث مع ركاب تايتنك حين لم يجدوا قوارب تحملهم لتنقذهم من غرق محقق، لكن المفارقة أن طاقم تايتنك جعل أولوية ركوب قوارب النجاة لكبار السن والأطفال، أما اليوم فالأولوية في أجهزة التنفس لليافعين القادرين على مقاومة المرض.
أطلقت تايتنك نداء استغاثتها فور اصطدامها بالجبل الجليدي، ولكن الزمن كان أسبق من الإغاثة، فغرقت بعد ساعتين وأربعين دقيقة، ووصلت الإغاثة بعد تسع ساعات من حصول الاصطدام.
وكذلك حال البشرية اليوم التي أطلقت نداء استغاثتها فور اكتشاف الفيروس، لكن كما هو مقدر علميًّا اللقاح يحتاج من عام إلى عام ونصف، في حين المرض يفتك ويقتل في أسبوعين أو أكثر قليلًا.
غرق من ركاب تايتنك نحو 68% من ركابها، ونجا البقية ممن توافرت لهم أسباب النجاة من الذين استطاعوا أن يركبوا القوارب أو صمدوا في الماء المتجمد حتى وصلت النجدة، ولكن هل يصمد البشر أمام جائحة كورونا أم أن الله قدر لنا شأنًا آخر، فالله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.