حين ينشغل الإنسان بنفسه وصحته وأحواله يجمد صراعه مع الآخرين، ويضع أحقاده في الثلاجة، وهذا الذي حدث مع شعوب الأرض التي تخوض معاركها ضد فيروس كورونا، وتجاهلت أو خففت من غلوائها وصراعها مع الآخرين، فالعدو الداخلي ينسينا كبشر العدو الخارجي.
لقد أثر فيروس كورونا على مجمل القضايا السياسية على مستوى العالم، وأطفأ نيران البغضاء المشتعلة في أكثر من بقعة، وخطف اهتمام الناس وتفكيرهم، وقيد حراك السياسيين بعد أن سيطر على وسائل الإعلام، فأزاح جانبًا الانتخابات الأمريكية، وأسكت فيروس كورونا تهديدات جنرالات الحرب الإسرائيليين ضد غزة، وأوقف التصريحات الإسرائيلية عن التوسع الاستيطاني والضم، وأسكت فيروس كورونا هدير المدافع والطائرات في شمال سوريا، وجمد فيروس كورونا الصراع والحصار حول طرابلس في ليبيا، وأوقف فيروس كورونا الحراك الشعبي في الجزائر، وفرض الهدوء على مناطق الصراع في اليمن، وترك العراق في غيبوبة عن أحواله السياسية، مشغولًا بنفسه، وأربك أسواق المال، وتلاعب بأسعار النفط، ورفع من شأن الأطباء والحكماء والباحثين، وأهمل دور الفنانات والفنانين، وأغلق الملاعب والصالات والمطارات، وفرض منع التجول على عشرات العواصم الكبرى في العالم.
فيروس كورونا قدم لنا عالمًا جديدًا يختلف عما ساد لسنوات، عالم اكتشف فيه الإنسان ضعفه، وقلة حيلته، وعدم قدرته على مواجهة أصغر الكائنات، عالم تضاءل فيه دور المفاعلات النووية والأسلحة الفتاكة، وتراجع فيه دور الجيوش والرتب العسكرية، وفقدت فيه الثروات والممتلكات قيمتها أمام غزيرة البقاء، عالم جديد صارت فيه كل دولة تفكر بمصيرها، وتهتم بشأن سكانها، وتعزل نفسها عن بقية سكان الأرض، فإذا بكل النظريات عن العالم الذي صار قرية صغيرة مع التكنولوجيا ووسائل التواصل، يعاود الانقسام على نفسه، ويتمزق إلى مئات الدول وآلاف العواصم التي تقوقعت في حدودها رعبًا من أصغر المخلوقات.
وسط هذه الرعب الذي هز العالم، تطل غزة برأسها، وهي تتمنى السلامة لكل سكان الأرض، وتقول لهم: هل ذقتم بعض الوجع الذي سكن غزة لمدة 14 عامًا بفعل الحصار الإسرائيلي؟ هل أوجعكم عدم السفر وإغلاق المعابر وعدم التجول خارج بيوتكم؟ هذا هو حال غزة منذ 14 عامًا، وهل عشتم لحظات الرعب من الموت والعجز وانعدام مقومات الحياة؟ هذا هو حال أطفال غزة الذي سكن مفاصلهم الخوف من القصف الإسرائيلي!
ملحوظة: يتحدث البعض في غزة عن فرصة لإطلاق الصواريخ على المستوطنين الصهاينة في زمن كورونا، وهذا خطأ كبير، يدرك خطورته وسلبياته رجال غزة.